بعد بيان حال أهل الكتاب وتحريفهم لكتابهم، وسعيهم لصرف المسلمين عن دينهم، أصبحت نفوس المؤمنين مهيَّأة لتلقِي الأمر بإعلان المفاصلة، وهذه المفاصلة إنما هي في الانتماء وتمايز الهويَّة، فقد أصبح للمسلمين دينهم، وللآخرين أديانهم، وهذا الدين هو محور الانتماء والالتقاء.
وقد فصّلت هذه الآيات الخطوط العريضة لعقيدة الولاء والبراء هذه، وكما يأتي:
أولًا: النهي عن موالاة اليهود والنصارى
﴿۞ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَـتَّـخِذُواْ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ﴾ والنص على اليهود والنصارى لمكان الالتباس في المشتركات الدينيَّة؛ كالإيمان بالله والوحي والنبوة من حيث المبدأ، أما المشركون فقد كانت المفاصلة عنهم مبكِّرة من العهد المكي كما هو معلوم من قوله:
﴿لَكُمۡ دِینُكُمۡ وَلِیَ دِینِ﴾ [الكافرون: 6]، ثم في قوله:
﴿لَا تَـتَّـخِذُواْ عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ﴾ [الممتحنة: 1].
ثانيًا: إن موالاتهم بعد هذا النهي الصريح والحاسم هو انتسابٌ لهم، وانفكاكٌ عن آصرة المسلمين وهويتهم الجامعة، فالعبرة في الموقف لا في الادِّعاء، فمن وقف في صفِّ المسلمين فهو منهم، ومن وقف في صفِّ الكافرين فهو منهم
﴿وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ﴾.
ثالثًا: إن الدافع لموالاتهم مع بيان حالهم إنما هو النفاق
﴿فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ﴾ وهو التعبير المطَّرِد عن المنافقين، كما مرَّ في أوائل سورة
البقرة:
﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ﴾ [البقرة: 10].
رابعًا: أما المؤمن فلا يمكنه بحالٍ موالاة الكافرين، وإن وقع فهي علامة الردَّة - والعياذ بالله -
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ﴾.
خامسًا: إن قوَّة المسلمين وهيبتهم وعزَّتَهم هي الضمانة لمنع حالات التفلُّت نحو الأعداء
﴿یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّواْ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ﴾ فحالات الخوف والقلق وشتات الأمر وضياع السلطان هي البيئة التي يضطرب فيها الولاء، وهذا أمر معهود ومعروف.
سادسًا: إن الولاء الحقَّ إنما هو ذلك الولاء المستند إلى عقيدةٍ صحيحةٍ واضحةٍ، وانتماءٍ أصيلٍ وناصعٍ لهذا الدين
﴿إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَ ٰكِعُونَ﴾ وهذا الحصر يقتضي بطلان الولاءات القائمة على أساس الأرض، والنسب، والانتماء الحزبي، والاجتهاد المذهبي، ونحو ذلك من الولاءات المُجزَّأة.
سابعًا: إن الولاء الحقَّ هو طريق العزَّة والنصرة
﴿وَمَن یَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾ وذاك لتحقق القوَّة الدافعة بالإيمان، وتحقق الوحدة بموالاة المؤمنين بعضهم بعضًا.
ثامنًا: إن الولاء الحقَّ يَنتُج عنه خُلقٌ عمليٌّ تواصليٌّ
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمࣲۚ﴾ وهو خُلُق يجمع بين القوة والتواضع، فالقوة لردع العدو، والتواضع لكسب الصديق، وهذا نظير قوله في سورة الفتح:
﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ﴾ [الفتح: 29].
تاسعًا: إن البراءة تتأكَّد فيمن ناصَبَ الإسلام العداء
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَـتَّـخِذُواْ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُواْ دِینَكُمۡ هُزُوࣰا وَلَعِبࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِیَاۤءَۚ﴾،
﴿وَإِذَا نَادَیۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوࣰا وَلَعِبࣰاۚ﴾.
عاشرًا: إن سبب هذا النصب والمجاهرة بالعداء إنما هو التكبُّر على الحقِّ، ورفض الانصياع له
﴿قُلۡ یَــٰۤـأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّاۤ إِلَّاۤ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ﴾ وأما ادِّعاؤهم الإيمان فهو ادِّعاءٌ باطلٌ من قبل ومن بعد، فقد ضلُّوا على عهد أنبيائهم، وعبَدُوا العجل، وخانوا الميثاق فاستحقوا لعنة الله
﴿مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ﴾ وقد ضلُّوا على عهد النبيِّ الخاتم محمد
ﷺ ﴿وَإِذَا جَاۤءُوكُمۡ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِٱلۡكُفۡرِ وَهُمۡ قَدۡ خَرَجُواْ بِهِۦۚ﴾.
تجدر الإشارة في ختام هذه المسألة إلى أن هناك خلطًا لدى بعض المسلمين اليوم بين عقيدة الولاء والبراء وبين فقه العلاقات، فالتعامل بالحسنى مع المخالفين أصلٌ في هذا الفقه، وكذا الوفاء بالالتزامات والعقود، وإمكانية التعاون في المشتركات الإنسانيَّة والخدميَّة والصناعات والتجارات؛ إذ الولاء المحرَّم إنما هو ولاء الانتماء، وضياع التمييز في الدين والمعتقد، أو تأييد الكافرين على المؤمنين بالقتال والمناصرة، والله أعلم.