سورة ق تفسير مجالس النور الآية 40

وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ ﴿٤٠﴾

تفسير مجالس النور سورة ق

المجلس السادس والثلاثون بعد المائتين: وجاءت سَكرة الموت بالحق


الآية (19- 45)


في الشَّطر الثاني من هذه السورة الكريمة يعرِض القرآن حالَ هذا الإنسان وهو يتهيَّأ للرحيل عن هذه الحياة، ويمشي معه في سكَرَاته حتى يُعرَض أمام مصيره المحتوم؛ فإمَّا ناجٍ بصدقه وإيمانه وحُسن عمله، وإمَّا هالك بكذبه على نفسه، وكفره بربِّه، وسوء خلقه وعمله.
أولًا: أخبر القرآن عن حتميَّة الموت وسكَرَاته، رغم كراهة الإنسان له، ومحاولته نسيانه أو التهرُّب منه ﴿وَجَاۤءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّ ۖ ذَ ٰ⁠لِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِیدُ﴾.
ثانيًا: أكَّد القرآن حتميَّة البعث أيضًا ﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ یَوۡمُ ٱلۡوَعِیدِ ﴿٢٠﴾ وَجَاۤءَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّعَهَا سَاۤىِٕقࣱ وَشَهِیدࣱ ﴿٢١﴾ لَّقَدۡ كُنتَ فِی غَفۡلَةࣲ مِّنۡ هَـٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَاۤءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡیَوۡمَ حَدِیدࣱ﴾ ثم يُؤكِّد هذه الحقيقة الكبيرة في خواتيم السورة ﴿وَٱسۡتَمِعۡ یَوۡمَ یُنَادِ ٱلۡمُنَادِ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ ﴿٤١﴾ یَوۡمَ یَسۡمَعُونَ ٱلصَّیۡحَةَ بِٱلۡحَقِّ ۚ ذَ ٰ⁠لِكَ یَوۡمُ ٱلۡخُرُوجِ ﴿٤٢﴾ إِنَّا نَحۡنُ نُحۡیِۦ وَنُمِیتُ وَإِلَیۡنَا ٱلۡمَصِیرُ ﴿٤٣﴾ یَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلۡأَرۡضُ عَنۡهُمۡ سِرَاعࣰاۚ ذَ ٰ⁠لِكَ حَشۡرٌ عَلَیۡنَا یَسِیرࣱ﴾.
ثالثًا: ينقل القرآن مشهدًا من مشاهد ذلك اليوم العصيب؛ حيث يُلقى في النار كلّ كفارٍ عنيدٍ، وهناك ترتفع خصومتهم فيما بينهم، ويشهد الشهود عليهم، وتستشيط جهنّم غيظًا بهم، وتطلب المزيدَ منهم، وكأنّها كائنٌ حيٌّ وقد أخذ به الغضب كلَّ مأخذٍ على هؤلاء المُكذِّبين المُتجرِّئين على ربِّ العالمين ﴿۞ قَالَ قَرِینُهُۥ رَبَّنَا مَاۤ أَطۡغَیۡتُهُۥ وَلَـٰكِن كَانَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ ﴿٢٧﴾ قَالَ لَا تَخۡتَصِمُواْ لَدَیَّ وَقَدۡ قَدَّمۡتُ إِلَیۡكُم بِٱلۡوَعِیدِ ﴿٢٨﴾ مَا یُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَیَّ وَمَاۤ أَنَا۠ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ ﴿٢٩﴾ یَوۡمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمۡتَلَأۡتِ وَتَقُولُ هَلۡ مِن مَّزِیدࣲ﴾.
رابعًا: ثم ينقل مشهَدًا آخر تتجلَّى فيه رحمة الله بعباده الصالحين وما أعدّ لهم من كرامةٍ ونعيمٍ دائمٍ مُقيمٍ ﴿وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِینَ غَیۡرَ بَعِیدٍ ﴿٣١﴾ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِیظࣲ ﴿٣٢﴾ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِیظࣲ ﴿٣٣﴾ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِیظࣲ ﴿٣٤﴾ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِیظࣲ ﴿٣٥﴾ وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشࣰا فَنَقَّبُواْ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ هَلۡ مِن مَّحِیصٍ﴾.
خامسًا: يدعو القرآن أولئك المشركين إلى النظر في أسلافهم الأسبقين، وكيف كانت عاقبتهم بعد تكذيبهم للنبيين ﴿وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشࣰا فَنَقَّبُواْ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ هَلۡ مِن مَّحِیصٍ ﴿٣٦﴾ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدࣱ﴾.
سادسًا: ثم يدعوهم للنظر في آثار قُدرة الله الشاهدة والمحسوسة في هذا الكون ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبࣲ﴾.
سابعًا: ثُمّ يُوجِّهُ القرآنُ خطابه إلى نبيِّنا الكريم يُوصِيه بالصبر، واللجوء إلى الله وحده بالذكر والتسبيح والصلاة ﴿فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ ٱلۡغُرُوبِ﴾.
ثامنًا: يختم القرآن هذه السورة ببيان أنّ مُحمدًا ليس جبَّارًا في الأرض، ولا يُمكنه أن يتحكَّم بقلوب الناس، وإنّما مُهمَّته حمل هذا القرآن وتلاوته على الناس؛ فمَن آمَن فلنفسه، ومَن ضلَّ فعليها ﴿نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَقُولُونَۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِجَبَّارࣲۖ فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن یَخَافُ وَعِیدِ﴾.


﴿سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ﴾ بداية الموت، وسُمِّيَت سَكرَة؛ لما يَصحَبها مِن ذهولٍ شديدٍ، وانشغالٍ عن الواقع، فكأنه السُّكْر الذي يذهَبُ بالعقل.
﴿بِٱلۡحَقِّ ۖ﴾ أي: بمَوعِدِها الحقِّ، فلا يتخلَّف الموتُ عن أحدٍ.
﴿وَجَاۤءَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ﴾ كلُّ نفسٍ مِن المُتحدَّث عنهم - وهم الكافرون -؛ بدلالة الآتي:
﴿مَّعَهَا سَاۤىِٕقࣱ وَشَهِیدࣱ﴾ ملَكان؛ أحدهما يسوقها إلى محشرها ويكون وراءها بحيث يراها فلا تفلِت عنه، وثانيهما يشهدُ عليها بما كسبت، ويحتمل أن يكون هذان وصفان لملكٍ واحدٍ فهو يسوقها وهو يشهدُ عليها.
﴿فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَاۤءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡیَوۡمَ حَدِیدࣱ﴾ أي: حادٌّ نافِذٌ لا يحجُبُه شيءٌ.
﴿وَقَالَ قَرِینُهُۥ هَـٰذَا مَا لَدَیَّ عَتِیدٌ﴾ أي: قال المَلَك الشاهِدُ عليه: هذا ما هو مكتوبٌ عندي عنه مُعدٌّ ومُحضَّرٌ.
﴿أَلۡقِیَا فِی جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِیدࣲ﴾ الخطاب للسائق والشهيد على الاحتمال الأوَّل أنّهما مَلَكان، أمّا على الاحتمال الثاني فيكون الخطاب للواحد بصيغة المثنَّى جريًا على عادة العرب، كما قال امرؤ القيس: (قِفَا نَبْكِ)، والله أعلم.
﴿مُّرِیبٍ﴾ شاكّ في الله وفي كتابه ولقائه.
﴿۞ قَالَ قَرِینُهُۥ رَبَّنَا مَاۤ أَطۡغَیۡتُهُۥ﴾ هذا قرينُه من الإنس أو الجنِّ، وهو صاحبه في النار، يتبرَّأ منه ومن إضلاله لمّا كانا قرينَين في الدنيا.
﴿قَالَ لَا تَخۡتَصِمُواْ لَدَیَّ وَقَدۡ قَدَّمۡتُ إِلَیۡكُم بِٱلۡوَعِیدِ﴾ أي: لا ينفعكم خِصامُكم بعد أن جاءكم الرسل وأنذَرُوكم هذا اليوم فكذَّبتُمُوهم.
﴿مَا یُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَیَّ﴾ القولُ هنا سُنَّةُ الله في الثواب والعقاب.
﴿وَمَاۤ أَنَا۠ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي التي لا تتخلَّف.
﴿یَوۡمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمۡتَلَأۡتِ﴾ سؤالٌ يُقصد به توبيخ مَن بداخلها.
﴿وَتَقُولُ هَلۡ مِن مَّزِیدࣲ﴾ كأنّها تتشوَّف وتشتاق لأهلها من شدَّة غيظها وغضبها، وهذا قد يكون تشبيهًا لها بحال الكائن الحيِّ الذي يغضَبُ ويغتاظُ، وقد يكون على الحقيقةِ؛ فأحوال الآخرة لا تُقاسُ على الدنيا، ولا يَبعُد أن يكون هذا جواب خزَنَتها، والله أعلم.
﴿وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾ قُرِّبَت لهم.
﴿أَوَّابٍ﴾ كثير التوبة والإنابة إلى الله.
﴿حَفِیظࣲ﴾ حافِظٌ لحدود الله.
﴿مُّنِیبٍ﴾ مُقبِلٌ على الطاعة.
﴿لَهُم مَّا یَشَاۤءُونَ فِیهَا وَلَدَیۡنَا مَزِیدࣱ﴾ أي: فوق ما يشاؤون، وكرَمُ الله ليس له حَدٌّ.
﴿وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ﴾ من أُمَّةٍ وقومٍ.
﴿فَنَقَّبُواْ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ﴾ أي: تحكَّمُوا فيها وفي طُرُقها.
﴿هَلۡ مِن مَّحِیصٍ﴾ هل كان لهم من مهربٍ.
﴿أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ﴾ أصغَى لسماع الحقِّ.
﴿وَهُوَ شَهِیدࣱ﴾ حاضِرُ القلب يَعِي ما يسمَعُ.
﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ﴾ هي ليست من أيامنا؛ لأنّ يومنا هو حصيلة دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولكلِّ كوكبٍ يومه، فكيف باليوم الذي كان قبل خلق السماوات والأرض؟ فذلك لا يعلمه إلَّا الله، والمقصود بالإخبار عن تلك الأيَّام إنّما هو التقدير على مراحل، كما هي سُنَّةُ الخلق كلّه، حتى الجنين في بطن أمه، والبذرة في بطن التربة.
﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبࣲ﴾ إعياء وتعب، فالله مُنزَّهٌ عن ذلك، وفي هذا ردٌّ على قول اليهود: إنَّ الله استراحَ في اليوم السابع.
﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ ٱلۡغُرُوبِ﴾ أي: سبِّحِ الله واحمَده أوَّلَ النهار استِعدادًا للعمل، ونهايتَه استِغفارًا عن الزَّلَل.
﴿وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ﴾ في الليل نافلة مطلقة، وخلف كلّ صلاة ليليَّة أو نهاريَّة، فهذه أربعة أوقات يُستحب فيها التسبيح والتحميد: أوّل النهار، وآخره، وآناء الليل، وعقِب الصلوات.
﴿وَٱسۡتَمِعۡ یَوۡمَ یُنَادِ ٱلۡمُنَادِ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ ﴿٤١﴾ وَٱسۡتَمِعۡ یَوۡمَ یُنَادِ ٱلۡمُنَادِ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ﴾ (واستمع) أي: أَصغِ لما سنقولُه لك، وفيه تنبيهٌ على خطورة القول الآتي: ﴿یَوۡمَ یُنَادِ ٱلۡمُنَادِ﴾ تفسيره ما بعده: ﴿یَوۡمَ یَسۡمَعُونَ ٱلصَّیۡحَةَ بِٱلۡحَقِّ ۚ﴾ فالنداء هو: الصيحة
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ یَوۡمُ ٱلۡخُرُوجِ﴾ يوم البعث.
﴿یَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلۡأَرۡضُ عَنۡهُمۡ﴾ ليخرجوا منها، وذلك يوم البعث، ويوم الخروج.
﴿سِرَاعࣰاۚ﴾ جمعُ سريعٍ.
﴿وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِجَبَّارࣲۖ﴾ بمُسلَّطٍ عليهم بقوتك وجبروتك، بمعنى أنَّه ليس لك عليهم إلَّا التبليغ والبيان.
﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن یَخَافُ وَعِیدِ﴾ أي: ذكِّر المؤمنين، وهذا دليلٌ أنّ الدعوة لا تخُصُّ الكافرين؛ فالمؤمنون بحاجةٍ إلى التذكير أيضًا.