سورة الذاريات تفسير مجالس النور الآية 48

وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَـٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَـٰهِدُونَ ﴿٤٨﴾

تفسير مجالس النور سورة الذاريات

المجلس التاسع والثلاثون بعد المائتين: ففرُّوا إلى الله


الآية (47- 60)


في خواتيم هذه السورة المباركة وجَّه القرآنُ خطابَه للمشركين داعيًا ومُنبِّهًا ومُحذِّرًا، مُلتَفِتًا إلى نبيِّهِ الكريم مُعلِّمًا ومُوجِّهًا ومُطمئِنًا، وكما يأتي:
أولًا: نبَّه مرَّةً أخرى هذه العقول إلى ما في هذا الكون من آيات ودلالات ﴿وَٱلسَّمَاۤءَ بَنَیۡنَـٰهَا بِأَیۡیْدࣲ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿٤٧﴾ وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَـٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَـٰهِدُونَ ﴿٤٨﴾ وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾.
ثانيًا: ثم حذَّر المشركين من مغبّةِ عنادهم واستمرارهم في طريق الشرك، موجِّهًا لهم النداء الخالد الذي فيه النصح والجد والحزم ﴿فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱلـلَّــهِۖ إِنِّی لَكُم مِّنۡهُ نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ ﴿٥٠﴾ وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۖ إِنِّی لَكُم مِّنۡهُ نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ﴾.
ثالثًا: بيَّن القرآن طبيعةَ هؤلاء الناس، وكأنَّها سُنَّة مُتَّبَعة عندهم قديمًا وحديثًا ﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ مَاۤ أَتَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ ﴿٥٢﴾ أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ﴾ ولا شكّ أنّ في هذا تسليةٌ لرسول الله ثم لِمَن معه من المؤمنين.
رابعًا: وجَّه القرآن محمّدًا بترك أولئك المُعاندين وعدم الانشغال بِهم، وتوجيه الجهد إلى تربية المؤمنين وتوعيتهم وتذكيرهم ﴿فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَاۤ أَنتَ بِمَلُومࣲ ﴿٥٤﴾ وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾.
خامسًا: بيَّن القرآن الغايةَ الكبرى لخلق الإنسان ومثله الجان، فهما مخلوقان مُكلَّفان بمهمَّة، وهي مِعيارُ نجاحهما أو فشلهما ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ ﴿٥٦﴾ مَاۤ أُرِیدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقࣲ وَمَاۤ أُرِیدُ أَن یُطۡعِمُونِ ﴿٥٧﴾ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِینُ﴾ فالله سبحانه هو الغنيّ، وما التكليف بالطاعة والعبادة إلَّا ليتمايز الناس صالحهم عن مفسدهم، ومؤمنهم عن كافرهم.
سادسًا: ختم القرآن هذه السورة بوعيدٍ شديدٍ لمن كذَّب بالدين الحقّ، وتنكَّب الصراط المستقيم ﴿فَإِنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُواْ ذَنُوبࣰا مِّثۡلَ ذَنُوبِ أَصۡحَـٰبِهِمۡ فَلَا یَسۡتَعۡجِلُونِ ﴿٥٩﴾ فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ كَفَرُواْ مِن یَوۡمِهِمُ ٱلَّذِی یُوعَدُونَ﴾.


﴿وَٱلسَّمَاۤءَ بَنَیۡنَـٰهَا بِأَیۡیْدࣲ﴾ أي: بقوَّةٍ، كذا قال ابن كثير، وقد نقَلَه عن ابن عباس ومُجاهد وقتادة والثوريِّ وغيرهم من أئِمة السلف، ولم يذكر رأيًا آخر.
﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ السَّعة ضد الضيق، بمعنى أنّه تعالى قد جعل السماء واسعة، ولا يَبعُد أيضًا أن يُضاف إلى ذلك معنى التمدُّد، وهو ما بدأ العلمُ الحديثُ يتكلَّم عنه، بمعنى أنّ الكون في توسُّعٍ مُستمرٍّ، والله أعلم.
﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَـٰهَا﴾ مهَّدناها لعَيشِكم.
﴿فَنِعۡمَ ٱلۡمَـٰهِدُونَ﴾ أثنَى الله تعالى على نفسه أنّه هو من مهَّد هذه الأرض وجعلها صالحةً للعيش، وهذا يستلزِمُ الشكرَ، ونسبة النِّعمة إلى المُنعِم .
﴿وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ﴾ ذكرًا وأنثى؛ لتستمرّ الحياة، ولتتكامل بتعدُّد أصنافها وألوانها.
﴿فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱلـلَّــهِۖ﴾ أي: الجَأُوا إليه ولُوذُوا به.
﴿أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ﴾ استفهامٌ يُفيد التعجُّب مِن تشابُه قلوب المشركين ومواقفهم من أنبيائهم، حتى كأنّهم قد تواصَوا على ذلك رغم اختلاف أزمنتهم، وتباعُد أمكنتهم.
﴿بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ﴾ جوابٌ لذاك التعجُّب؛ فالطغيان هو الذي جمعهم وشابَه بين قلوبهم ومواقفهم.
﴿فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ﴾ أعرِض عنهم ولا تنشَغِل بهم.
﴿فَمَاۤ أَنتَ بِمَلُومࣲ﴾ على كُفرهم وعِنادهم بعد أن بلَغَتْهم رسالة ربِّهم.
﴿فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ لأنَّ المُؤمن بحاجةٍ إلى التعليم والتذكير، وكذلك من كان مُستعِدًّا للإيمان بتجرُّدِه، ونقاء فِطرته، ورغبَتِه بالتعرُّف على الحقِّ، وإطلاق المؤمنين على الأول حقيقة، وعلى الثاني مجاز باعتبار ما يكون، والله أعلم.
﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ لم يَذْكُر الملائكة هنا مع أنّهم مخلوقون للعبادة أيضًا؛ لأنّ العبادة في هذه الآية عبادة الاختبار والامتحان، والتمييز والتمحيص، وهذه غايةٌ مرتبطةٌ بخلق الإنسان ومثله الجان، ففيهم الاستعداد الفطري للطاعة والمعصية، والنجاح والفشل، بخلاف الملائكة.
﴿مَاۤ أُرِیدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقࣲ وَمَاۤ أُرِیدُ أَن یُطۡعِمُونِ﴾ فالله هو الغنيّ عن كلِّ من سواه، وهو ليس بحاجةٍ للرزق والطعام أصلًا، وإنّما هو تنبيهٌ لقُدرته سبحانه، وتعريضٌ بالآلهة المُزيَّفة وسَدَنَتها الذين يأخذون القرابين من الناس ويُرغِّبونهم في ذلك.
﴿ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِینُ﴾ الشديد.
﴿فَإِنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُواْ ذَنُوبࣰا﴾ أي: نصيبهم من العذاب، وأصلُ الذَّنُوب: الدَّلْو الكبيرة، فلكلّ ظالمٍ ذَنوبه، أي: مقداره الذي يستحقُّه من العذاب.
﴿مِّثۡلَ ذَنُوبِ أَصۡحَـٰبِهِمۡ﴾ أي: مِثلَ نصيبِ مَن تقدَّمَهم من الأمم السابقة.
﴿فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ كَفَرُواْ مِن یَوۡمِهِمُ ٱلَّذِی یُوعَدُونَ﴾ خاتمةٌ تأخذُ بقلوب أولئك المجرمين بُغيةَ دفعهم إلى التفكير والتصحيح قبل فوات الأوان.