يتناول الشطر الثاني من هذه السورة حال المشركين وموقفهم من هذه الدعوة، ومُحاجَجتهم بهذه العقيدة، ثم إنذارهم وبالَ أمرهم إنْ هم أصَرُّوا على عِنادهم وكُفرهم:
أولًا: يأمر الله تعالى نبيَّه
ﷺ أن يستمرَّ بالتذكير والدعوة إلى الله مهما قال فيه المشركون، ومهما تربّصوا به
﴿فَذَكِّرۡ فَمَاۤ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنࣲ وَلَا مَجۡنُونٍ ﴿٢٩﴾ أَمۡ یَقُولُونَ شَاعِرࣱ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَیۡبَ ٱلۡمَنُونِ ﴿٣٠﴾ قُلۡ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّی مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُتَرَبِّصِینَ﴾ ثم يُوصِيه بالصبر واللجوء إلى الله؛ فإنّ الله ناصِره ومحيطه بلطفه ومحبّته وعنايته
﴿وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡیُنِنَاۖ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِینَ تَقُومُ ﴿٤٨﴾ وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَإِدۡبَـٰرَ ٱلنُّجُومِ﴾.
ثانيًا: يدحض القرآن تخرُّصات المشركين وأقاويلهم الباطلة بحقِّه
ﷺ ﴿أَمۡ تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَـٰمُهُم بِهَـٰذَاۤۚ﴾ بمعنى أنّ أقوالهم تلك لا يستَسِيغُها العقل، فليس في القرآن ما يلتَبِسُ على أصحاب العقول بالكهانة، أو الجنون، أو الشعر، ثم كيف تجتمع هذه التُّهَم على شخصٍ واحدٍ؟ ثم أجاب القرآن بصيغة السؤال أيضًا:
﴿أَمۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ﴾ فالطغيان بما فيه من ضغينة وكِبر وحسد هو الذي دفَعَهم إلى هذا.
ثالثًا: ثم يُحاججهم في تهمةٍ أخرى ألصَقوها به
ﷺ لا تختلف في نتيجتها عمّا تقدَّم من أباطيلهم
﴿أَمۡ یَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۚ بَل لَّا یُؤۡمِنُونَ ﴿٣٣﴾ فَلۡیَأۡتُواْ بِحَدِیثࣲ مِّثۡلِهِۦۤ إِن كَانُواْ صَـٰدِقِینَ﴾ وهذا من أقوى الأدلة على بطلان دعواهم؛ إذ لو كان هذا القرآن من كلامه هو - حاشاه -
ﷺ لكان بإمكانهم أن يأتوا بمثله.
رابعًا: ثم يُحاججهم في أصل الخلاف ونقطة الافتراق الأولى
﴿أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَیۡرِ شَیۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ ﴿٣٥﴾ أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا یُوقِنُونَ ﴿٣٦﴾ أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَاۤىِٕنُ رَبِّكَ أَمۡ هُمُ ٱلۡمُصَۣیۡطِرُونَ﴾ بمعنى: ما الأساس الذي يَبنُون عليه شِركهم بالله وإنكارهم لقُدرته ـ على بعثهم وإعادة الحياة إليهم؟ فوجُودُهم هذا لا يحتمل في القِسمة الافتراضية إلَّا واحدة من ثلاث:
- أنّ وجودهم كان مِن لا شيء، وإنّما هو محض الصدفة والعبث، وهذا ما يُنكِرُهُ المشركون أنفسهم، وهو مُستنكَرٌ بالبداهة والفطرة؛ إذ وجود الشيء من لا شيء محال.
- أو أنّهم هم الذين خلَقوا أنفسهم فهم أدرى بها وأدرى بقدرتهم على بعثها من جديد أو لا، وهذا لا يقول به المشركون أيضًا، وهو محالٌ بالبداهة؛ لأنّه يلزم تقدُّم وجودهم على وجود أنفسهم.
- بقِيَ الاحتمال الثالث، وهو أنّ ثَمَّة إلهًا حكيمًا عليمًا قديرًا هو الذي خلَقَهم، والمشركون يقولون بهذا ولا يُنكِرُونه، لكنهم يرجِعُون عنه بمنطقٍ مقلوبٍ؛ فما يرَونه مُحالًا عندهم بحسب قُدراتهم وتصوُّراتهم البشرية يجعلونه مُحالًا على الله، وبذلك يُساوُون قدرة الخالق بقدراتهم.
وتتمَّةً لهذه الاحتمالات، يذكُر القرآن احتمالًا من الممكن أن يتفرَّع عن الاحتمال الأخير:
﴿أَمۡ لَهُمۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ وهذا الاحتمال وإن كانوا يقولون به من حيث الصورة؛ لأنّهم يُؤلِّهُون أصنامَهم، لكنهم يُنكِرون في الوقت نفسه أن يكون لأصنامهم هذه شأنٌ في خلقهم، أو في خلق السماوات والأرض، وهذا من كبير تخبُّطهم وتناقُضهم.
خامسًا: ثم يُطالبهم القرآن ببيان حجَّتهم إن كانت لهم حجَّة يستندون إليها
﴿أَمۡ لَهُمۡ سُلَّمࣱ یَسۡتَمِعُونَ فِیهِۖ فَلۡیَأۡتِ مُسۡتَمِعُهُم بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینٍ﴾،
﴿أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَیۡبُ فَهُمۡ یَكۡتُبُونَ﴾ وفي ثنايا هذه النقطة يَذْكر القرآن مثالًا على جهلهم وقولهم على الله بغير علمٍ:
﴿أَمۡ لَهُ ٱلۡبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلۡبَنُونَ﴾ بمعنى أنّه لو كان عندكم شيء من العلم لما قُلتُم هذا القولَ على الله.
سادسًا: ثم يسأل الله تعالى نبيَّه
ﷺ - وهو أعلم به - عمّا إذا كان قد طلَبَ منهم ما يشقّ عليهم وما يدفعهم لهذه النفرة عن الحقِّ
﴿أَمۡ تَسۡـَٔلُهُمۡ أَجۡرࣰا فَهُم مِّن مَّغۡرَمࣲ مُّثۡقَلُونَ﴾ وهذا السؤال قُصِد به تنزيه الدعوة عن أيِّ غرضٍ مادّيٍّ، وبيان أنّ المشركين لم يَبقَ عندهم حجّة ولا عذر إلَّا العناد والمُكابرة.
سابعًا: وفي الخِتام يوجّه القرآن تحذيره الشديد لهؤلاء المشركين المعاندين إنْ هم أصرُّوا على طريق الكفر والكيد والعداوة لمحمدٍ
ﷺ ولدعوته
﴿أَمۡ یُرِیدُونَ كَیۡدࣰاۖ فَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلۡمَكِیدُونَ﴾،
﴿وَإِن یَرَوۡاْ كِسۡفࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ سَاقِطࣰا یَقُولُواْ سَحَابࣱ مَّرۡكُومࣱ ﴿٤٤﴾ فَذَرۡهُمۡ حَتَّىٰ یُلَـٰقُواْ یَوۡمَهُمُ ٱلَّذِی فِیهِ یُصۡعَقُونَ ﴿٤٥﴾ یَوۡمَ لَا یُغۡنِی عَنۡهُمۡ كَیۡدُهُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ﴿٤٦﴾ وَإِنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُواْ عَذَابࣰا دُونَ ذَ ٰلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ﴾.