سورة الطور تفسير مجالس النور الآية 3

فِی رَقࣲّ مَّنشُورࣲ ﴿٣﴾

تفسير مجالس النور سورة الطور

المجلس الأربعون بعد المائتين: إن عذاب ربك لواقع


الآية (1- 28)


سورة الطور لا تختلف في مضمونها عن سورة الذاريات حتى كأنّها مُتمِّمةٌ ومُؤكِّدةٌ لها، فهي تبدأ بإثبات اليوم الآخر وما فيه من حسابٍ وثوابٍ وعقابٍ، ثم توجيه الخطاب للمُشركين ومُحاورتهم بهذه العقيدة، وكما يأتي:
أولًا: يُقسِم الله ـ بما له صِلة وثيقة بهذه العقيدة؛ ليؤكِّد صحة العقيدة نفسها ﴿وَٱلطُّورِ ﴿١﴾ وَكِتَـٰبࣲ مَّسۡطُورࣲ ﴿٢﴾ فِی رَقࣲّ مَّنشُورࣲ ﴿٣﴾ وَٱلۡبَیۡتِ ٱلۡمَعۡمُورِ ﴿٤﴾ وَٱلسَّقۡفِ ٱلۡمَرۡفُوعِ ﴿٥﴾ وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ ﴿٦﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَ ٰ⁠قِعࣱ ﴿٧﴾ مَّا لَهُۥ مِن دَافِعࣲ﴾.
ثانيًا: يصِف الله ـ ذلك اليوم الذي تنقلِب فيه الأكوان ﴿یَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَاۤءُ مَوۡرࣰا ﴿٩﴾ وَتَسِیرُ ٱلۡجِبَالُ سَیۡرࣰا﴾.
ثالثًا: يصِفُ الله سبحانه حالَ أهل النار، مُبيِّنًا السببَ الذي أوردَهم هذا المورِد ﴿فَوَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿١١﴾ ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی خَوۡضࣲ یَلۡعَبُونَ ﴿١٢﴾ یَوۡمَ یُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴿١٣﴾ هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِی كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿١٤﴾ أَفَسِحۡرٌ هَـٰذَاۤ أَمۡ أَنتُمۡ لَا تُبۡصِرُونَ ﴿١٥﴾ ٱصۡلَوۡهَا فَٱصۡبِرُوۤاْ أَوۡ لَا تَصۡبِرُواْ سَوَاۤءٌ عَلَیۡكُمۡۖ إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾.
رابعًا: يصِفُ الله تبارك وتعالى أهلَ الجنَّة والمقام الذي هم فيه ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَنَعِیمࣲ ﴿١٧﴾ فَـٰكِهِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ وَوَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ ﴿١٨﴾ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِیۤـَٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿١٩﴾ مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ سُرُرࣲ مَّصۡفُوفَةࣲۖ وَزَوَّجۡنَـٰهُم بِحُورٍ عِینࣲ﴾، ومِن إتمام نعيمهم أنّه يلحق بهم ذريّاتهم ولو كانوا بمرتبةٍ أقل منهم ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّیَّتُهُم بِإِیمَـٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَمَاۤ أَلَتۡنَـٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَیۡءࣲۚ كُلُّ ٱمۡرِىِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِینࣱ﴾، ثم يعرِض لجوانب من الأُنس فيما بينهم وما يتجاذَبونه في مجالسهم، وما يتذكّرونه من أيام دنياهم ﴿وَأَمۡدَدۡنَـٰهُم بِفَـٰكِهَةࣲ وَلَحۡمࣲ مِّمَّا یَشۡتَهُونَ ﴿٢٢﴾ یَتَنَـٰزَعُونَ فِیهَا كَأۡسࣰا لَّا لَغۡوࣱ فِیهَا وَلَا تَأۡثِیمࣱ ﴿٢٣﴾ ۞ وَیَطُوفُ عَلَیۡهِمۡ غِلۡمَانࣱ لَّهُمۡ كَأَنَّهُمۡ لُؤۡلُؤࣱ مَّكۡنُونࣱ ﴿٢٤﴾ وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ یَتَسَاۤءَلُونَ﴿٢٥﴾ قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِیۤ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِینَ ﴿٢٦﴾ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ ﴿٢٧﴾ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلُ نَدۡعُوهُۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡبَرُّ ٱلرَّحِیمُ﴾.


﴿وَٱلطُّورِ﴾ هو الجبل المعروف الذي تلقَّى عليه موسى عليه السلام كلامَ الله.
﴿وَكِتَـٰبࣲ مَّسۡطُورࣲ﴾ الأظهر أنّه كلام الله المُنزَّل على سيدنا موسى عليه السلام، وهو التوراة بقرينة الطور، والله أعلم.
﴿فِی رَقࣲّ مَّنشُورࣲ﴾ ما يُتَّخَذُ للكتابة؛ كالصحف والجلود ونحوها، وهذا مُختلِفٌ باختِلاف الأزمِنة، فالرَّقُّ الذي يُكتَب عليه اليوم غير الرَّقِّ الذي كان يُكتَب عليه بالأمس.
﴿وَٱلۡبَیۡتِ ٱلۡمَعۡمُورِ﴾ ثبَتَ في «الصحيحين» أنّ في السماء السابعة بيتًا يسمَّى البيت المعمور تعمُرُه الملائكة بالعبادة، لكن هذا الحديث مع ثبوته ليس نصًّا في تفسير هذه الآية، وإنّما هو وجهٌ في تفسيرها؛ إذ السياق يُرجِّح أنّه هنا وصفٌ للكعبة؛ لأنّه جاء بعد ذِكرِ الطور، فيكون الأنسَب أنّه ذكر مكان نزول التوراة، ثم المكان الذي نزل فيه القرآن، والله أعلم.
﴿وَٱلسَّقۡفِ ٱلۡمَرۡفُوعِ﴾ السماء؛ إذ هي مصدرُ الوحيَين؛ التوراة والقرآن.
﴿وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ﴾ يُحتمل أنّه الممتلئ بالماء، والمقصود به: البحر الذي أغرَقَ الله به فرعون، فتكون سلسلةُ القَسَم مُتَّصِلة، أو أنّه المُسجَّر بالنار، وهو من علامات الساعة، فيكون التذكير به تذكيرًا بالساعة، وقد جاء هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ﴾ [التكوير: 6]، والله أعلم.
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَ ٰ⁠قِعࣱ﴾ أي: لنازِل وحاصِل على وجه اليقين.
﴿مَّا لَهُۥ مِن دَافِعࣲ﴾ ليس بقُدرة أحدٍ أن يمنعه أو يُؤخِّره.
﴿یَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَاۤءُ مَوۡرࣰا﴾ تضطرِبُ اضطرابًا.
﴿وَتَسِیرُ ٱلۡجِبَالُ سَیۡرࣰا﴾ تتحرَّك من أماكنها فلا تستقرُّ حتى تكون هباءً.
﴿ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی خَوۡضࣲ یَلۡعَبُونَ﴾ تأكيدٌ أنّ الذي يدفع هؤلاء المُكذِّبين إلى التكذيب بالبعث إنّما هو العبث واللعب، وليس النظر والتفكير الجاد.
﴿یَوۡمَ یُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ يُدفعون إليها دَفعًا.
﴿أَفَسِحۡرٌ هَـٰذَاۤ أَمۡ أَنتُمۡ لَا تُبۡصِرُونَ﴾ يقال لهم هذا على سبيل التهكُّم والتوبيخ.
﴿ٱصۡلَوۡهَا فَٱصۡبِرُوۤاْ أَوۡ لَا تَصۡبِرُواْ سَوَاۤءٌ عَلَیۡكُمۡۖ﴾ بمعنى أنّ أصحاب النار لا ينفعهم صبرهم، ولا ينفعهم جَزَعهم.
﴿إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي، وأنّ الله سبحانه لا يظلِمُ أحدًا.
﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَنَعِیمࣲ ﴿١٧﴾ فَـٰكِهِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ﴾ أي: مُتنعّمين بما أعطاهم الله من أسباب النعيم.
﴿كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِیۤـَٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ تأكيدٌ أيضًا لعقيدة العدل الإلهي، فأعمالهم هي التي نجَّتْهم، وليست أنسابهم وأحسابهم، ولا أموالهم ومناصبهم.
﴿مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ سُرُرࣲ مَّصۡفُوفَةࣲۖ﴾ مظهرٌ من مظاهر الأُنس والبهجة بالأهل والأحباب.
﴿وَزَوَّجۡنَـٰهُم بِحُورٍ عِینࣲ﴾ أي: قرَنَّاهم بالحور العين، وليس في الآخرة تزويجٌ بالمعنى المعروف هنا في الدنيا، والحُور العين: نساء المؤمنين في الجنَّة.
﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّیَّتُهُم بِإِیمَـٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ﴾ بمعنى أنّ الله يُكرِم المؤمنين ويُلحِق بهم أولادهم المؤمنين وإن كانوا في درجةٍ أقل؛ إكرامًا لوالديهم، وإتمامًا لنعمة الله عليهم.
﴿وَمَاۤ أَلَتۡنَـٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَیۡءࣲۚ﴾ أي: ما نقَصنا آباءهم شيئًا من ثوابهم، بل رفعنا أولادَهم إلى منزلتهم.
﴿كُلُّ ٱمۡرِىِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِینࣱ﴾ جملةٌ معترضة لتأكيد العدل الإلهي المطلق، فكلّ إنسان مُقترن بعمله إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
﴿وَأَمۡدَدۡنَـٰهُم﴾ زِدناهم.
﴿یَتَنَـٰزَعُونَ فِیهَا كَأۡسࣰا﴾ أي: يتبادَلون ويتجاذَبون كؤوسَ الخمر، والكأس هنا مفردٌ بلفظه جمعٌ بمعناه؛ لأنّه أرادَ به جِنسَ الكؤوس لا واحدًا منها.
﴿لَّا لَغۡوࣱ فِیهَا وَلَا تَأۡثِیمࣱ﴾ فخَمر الجنة مختلفٌ عن خَمر الدنيا، فليس هناك إثمٌ ولا لغوٌ بالباطل.
﴿۞ وَیَطُوفُ عَلَیۡهِمۡ غِلۡمَانࣱ لَّهُمۡ كَأَنَّهُمۡ لُؤۡلُؤࣱ مَّكۡنُونࣱ﴾ هؤلاء هم الغِلمان الذين أعدَّهم الله لخدمة المؤمنين في الجنة، وقد وصَفَهم بما يُشعِرُ باللَّطافَة والحُسن والأُنس، وإذا كان هذا حالُ الخَدَم، فكيف بأهل الجنة وحُورها؟ واللؤلؤُ المكنونُ أي: المحفوظُ عن كلِّ شائِبةٍ.
﴿وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ یَتَسَاۤءَلُونَ﴾ بعد أن فرَغُوا من أكلهم وشربهم.
﴿قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِیۤ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِینَ﴾ إنّهم يتذكّرون الدنيا، وكيف كانوا فيها خائفين من عذاب الله، فدفعهم هذا الخوف إلى اللجوء والضراعة إلى الله حتى استجابَ الله لهم، وقَبِلَهم عنده ﴿فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ ﴿٢٧﴾ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلُ نَدۡعُوهُۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡبَرُّ ٱلرَّحِیمُ﴾.