ثم ذكر وصفَهم، فقال: {الذين يَجْتَنِبون كبائرَ الإثم والفواحشَ}؛ أي: يفعلون ما أمرهم اللهُ به من الواجبات، التي يكون تركُها من كبائر الذُّنوب، ويتركون المحرَّمات الكبار من الزِّنا وشرب الخمر وأكل الرِّبا والقتل ونحو ذلك من الذُّنوب العظيمة، {إلاَّ اللَّمم}: وهو الذُّنوب الصغارُ التي لا يصرُّ صاحبها عليها، أو التي يلمُّ العبدُ بها المرَّة بعد المرَّة على وجه الندرة والقلَّة؛ فهذه ليس مجرَّد الإقدام عليها مخرجاً للعبد من أن يكون من المحسنين؛ فإنَّ هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات تدخُلُ تحت مغفرة الله التي وسعتْ كلَّ شيءٍ، ولهذا قال: {إنَّ ربَّك واسعُ المغفرةِ}: فلولا مغفرتُه؛ لهلكتِ البلادُ والعبادُ، ولولا عفوُه وحلمه؛ لسقطتِ السماء على الأرض، ولَمَا ترك على ظهرها من دابَّةٍ، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَتِ الكبائر». وقوله: {هو أعلم بكم إذْ أنشأكُم من الأرضِ وإذْ أنتُم أجنَّةٌ في بطون أمَّهاتِكم}؛ أي: هو تعالى أعلم بأحوالكم كلِّها، وما جبلكم عليه من الضَّعف والخَوَر عن كثيرٍ مما أمركم الله به، ومن كثرة الدواعي إلى فعل المحرَّمات، وكثرة الجواذب إليها، وعدم الموانع القويَّة، والضعف موجودٌ مشاهدٌ منكم حين أخرجكم الله من الأرض، وإذ كنتم في بطونِ أمَّهاتكم، ولم يزل موجوداً فيكم، وإنْ كان الله تعالى قد أوجدَ فيكم قوَّةً على ما أمركم به. ولكنَّ الضعف لم يزلْ؛ فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه؛ ناسبت الحكمةُ الإلهيَّة والجود الربانيُّ أن يتغمَّدكم برحمته ومغفرته وعفوه، ويغمرَكم بإحسانه، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم، خصوصاً إذا كان العبدُ مقصودُه مرضاة ربِّه في جميع الأوقات، وسعيُه فيما يقرُبُ إليه في أكثر الآنات، وفراره من الذُّنوب التي يمقتُ بها عند مولاه، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة؛ فإنَّ الله تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، أرحم بعبادِهِ من الوالدةِ بولدِها؛ فلا بدَّ لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربِّه قريباً، وأن يكونَ الله له في جميع أحوالِهِ مجيباً، ولهذا قال تعالى: {فلا تزكُّوا أنفسَكم}؛ أي: تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدُّح عندهم، {هو أعلم بمن اتَّقى}؛ فإنَّ التَّقوى محلُّها القلبُ، والله هو المطَّلع عليه، المجازي على ما فيه من برٍّ وتقوى، وأما الناسُ؛ فلا يغنون عنكم من الله شيئاً.