﴿نَحۡنُ خَلَقۡنَـٰكُمۡ فَلَوۡلَا تُصَدِّقُونَ﴾ فهلَّا تُصدِّقون! وهي أداة من أدوات الطلب.
﴿أَفَرَءَیۡتُم مَّا تُمۡنُونَ﴾ بمعنى إن كنتم لا تُصدِّقون الخلق الأول - أي: خلق آدم - فانظروا في خلقكم المُتكرِّر من المنيِّ الذي تتناسَلُون منه.
﴿ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ﴾ فخَلْقُ الإنسان من هذه النُّطَف السابِحة في ماء المنِيِّ آيةٌ من آيات الله الظاهرة والمتكررة في هذه الحياة.
﴿وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِینَ﴾ وما نحن بعاجزين أو مغلوبين.
﴿أَن نُّبَدِّلَ أَمۡثَـٰلَكُمۡ﴾ أي: أن نُبدِّل بكم أمثالَكم، وهو تهديدٌ يتضمَّنُ استِئصالَهم وإهلاكَهم، كما قال في موضعٍ آخر:
﴿إِن یَشَأۡ یُذۡهِبۡكُمۡ وَیَأۡتِ بِخَلۡقࣲ جَدِیدࣲ﴾.
﴿وَنُنشِئَكُمۡ فِی مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ نشأة غير نشأتكم هذه، بصفاتٍ وأحوالٍ لا تعلمون منها شيئًا.
﴿وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُولَىٰ فَلَوۡلَا تَذَكَّرُونَ﴾ أي: علِمتُم خَلقَكم الأوَّل في الأرحام، وهذا كافٍ لكم في إثباتِ قُدرة الله على الخَلق الثانِي.
﴿أَفَرَءَیۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ﴾ عبَّرَ بالحرث وأرادَ الزرعَ؛ فالناس يحرثون الأرض ثم يزرعونها بالبذور.
﴿ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّ ٰرِعُونَ﴾ عبَّرَ بالزرع وأرادَ الإنباتَ؛ لأنّ دورهم ينتهي بحَرث الأرض وإيداع البذور فيها، أمّا كيف ستنمو هذه البذور وتتفتّح حتى تشقّ الأرض وتنضج، فهذا كلّه مما لا دخل للبشر فيه، وإنّما هي سنّة الله المودعة في هذه الحياة.
﴿لَوۡ نَشَاۤءُ لَجَعَلۡنَـٰهُ حُطَـٰمࣰا﴾ لا ينمو ولا ينبُت، فيذهب حُطامًا لا فائدة منه.
﴿فَظَلۡتُمۡ تَفَكَّهُونَ﴾ الأصلُ في التفكُّه أنّه علامة على السرور، والشعور بالأُنس والراحة، ولعلَّه جاء هنا على سبيل التهكُّم، كقوله في ذلك الشقيِّ:
﴿ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡكَرِیمُ﴾ [الدخان: 49]، والله أعلم.
﴿إِنَّا لَمُغۡرَمُونَ ﴿٦٦﴾ بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ﴾ أي: خاسِرُون ومحرُومُون من الرزق، وهذا تعبيرٌ عن حَسرَتِهم وخَيبَتِهم.
﴿أَفَرَءَیۡتُمُ ٱلۡمَاۤءَ ٱلَّذِی تَشۡرَبُونَ ﴿٦٨﴾ ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ﴾ لأنّ الماء العذب الذي في الوِديان والغدران والأنهار وحتى العيون والآبار مصدره المطر، فهو الذي يُغذِّي كلّ هذه المنابع، وليس للبشر في تكوين المطر نصِيب، بل هو من سُنن الله وآياته الظاهرة.
﴿لَوۡ نَشَاۤءُ جَعَلۡنَـٰهُ أُجَاجࣰا﴾ مالحًا فلا يصلُح للشرب.
﴿فَلَوۡلَا تَشۡكُرُونَ﴾ فهلَّا تشكُرُون، أي: يطلب منهم الشكر، وهو الغنيُّ عنهم سبحانه.
﴿أَفَرَءَیۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِی تُورُونَ﴾ أي: تُوقِدون.
﴿ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَاۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ﴾ وهي ظاهرةٌ من ظواهر هذه الحياة؛ حيث تؤول الأشجار بعد أن كانت زاهية الخضرة إلى حطبٍ يابسٍ تُستعمَل في الوقود.
أمَّا الحديث عن وجود شجرتَين يُؤخَذ غصنٌ من هذه وغصنٌ من هذه فتتَّقِدُ النار، فلا مانع منه، ولكن السياق يتحدَّث في إطار أوسع؛ فاتخاذ الوقود من الشجر ظاهرة حياتيَّة عامة معروفة لدى كلّ شعوب الأرض، بخلاف هذه الحالة النادرة التي لا يعلَمُها أكثر الناس، والمقام مقام مُحاججة، والمُحاججة لا تكون إلَّا بالدلائل الظاهرة، والله أعلم.
﴿نَحۡنُ جَعَلۡنَـٰهَا تَذۡكِرَةࣰ﴾ أي: جعلنا النار تُذكِّركم بنار جهنم، وتُقرِّب صورتها لكم، وكذلك تُذكِّركم بقدرة الله ودقَّة النظام الذي أودَعَه في هذا الكون، وتعاضد عناصره وتكاملها من ماءٍ وهواءٍ ونارٍ وترابٍ.
﴿وَمَتَـٰعࣰا لِّلۡمُقۡوِینَ﴾ أي: الذين يسيرون في الأرض القفر، فهم بحاجةٍ إلى دفءٍ النار وضوئها، ولا أحد مثل البدو وسكّان الصحراء يعرفُ قيمة النار وفوائدها، مع أنّها ضرورة لكلِّ الناس بدوهم وحضرهم، مقيمهم ومسافرهم.
﴿۞ فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰقِعِ ٱلنُّجُومِ﴾ صيغةٌ معروفةٌ من صيغ القسم، و
﴿فَلَاۤ﴾ ليست نافية، بل مُؤكِّدة بدلالة قوله:
﴿وَإِنَّهُۥ لَقَسَمࣱ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِیمٌ﴾ ومواقع النجوم: أفلاكها ومساراتها.
﴿وَإِنَّهُۥ لَقَسَمࣱ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِیمٌ﴾ لِعظمة النجوم هذه ودقَّة حركتها على كثرَتِها التي لا تُحصَى، حتى إنّ الأرضَ بكلِّ ما فيها ليست إلا هباءة صغيرة في مُقابل هذه النُّجوم.
﴿إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانࣱ كَرِیمࣱ﴾ أي: هذا الذي يُتلَى عليكم، والجملة واقعةٌ في جواب القسم.
﴿فِی كِتَـٰبࣲ مَّكۡنُونࣲ﴾ أي: محفوظٍ من الزيادة والنقصان.
﴿لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ﴾ يحتمل فيها الإخبار، أو النهي بصيغة الإخبار؛ فعلى الأوّل يكون المعنى: ألّا يمسّ القرآنَ المحفوظ عند الله في اللوح المحفوظ إلّا الملائكةُ المُطهَّرون، وعلى الثاني يكون المعنى: لا يَمَسُّه أحدٌ منكم أيها المؤمنون إلّا على طهارة، والمعنى الأوّل أقرب للسياق، والمعنى الثاني أحوَط للتعبُّد وتعظيم القرآن، ثُمّ إنّ وصف الملائكة في هذا الموضع بأنّهم مُطهَّرون يعني أنّ هذه الصفة مناسبة للقرآن فيحسُن التخلّق بها، والله أعلم.
﴿أَفَبِهَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ أَنتُم مُّدۡهِنُونَ﴾ أي: أبهذا الحديث العظيم أنتم مُتهاونون ومُكذِّبون، ليتقرَّب بعضُكم من بعض بهذا التهاون، وهذا التكذيب؟ وهذا سببٌ معروفٌ وشائعٌ من أسباب الضلالة والاستمرار عليها؛ حيث يقول المرء ما لا يعتقده حقيقةً؛ طمعًا في التقرُّب إلى مَن معه في حزبه أو قبيلته.
﴿وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ﴾ أي: وتجعَلون تكذيبَكم للقرآن سببًا لدوام رزقكم ومنافعكم، واستمرار تجاراتكم فيما بينكم؛ لأنّهم كانوا يرَون أنَّ الإيمان يقطَع علاقاتهم، والآيةُ مُتَّصلةٌ بما قبلها ومؤكِّدةٌ له، وقد ذَكَرَ المفسّرون هنا أقوالًا بعيدة عن السياق، وإن كانت صحيحة في ذاتها، كقولهم: إنّ المقصود به أولئك الذين ينسبون المطر إلى الأنواء وليس إلى رحمة الله، والله أعلم.
﴿فَلَوۡلَاۤ إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ﴾ أي: فهَلَّا إذا بلغت روح المحتضر إلى الحلق فدخل في غرغرة الموت وسكراته.
﴿وَأَنتُمۡ حِینَىِٕذࣲ تَنظُرُونَ﴾ أي: تنظرون إلى ميِّتِكُم وهو بهذه الحال.
﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ﴾ أي: أعلمُ به وأقدرُ عليه منكم، ولكنَّكم لا تُبصِرون شيئًا، لا الروح التي تُنزَع منه، ولا الملائكة المُوكَّلين به وبقبض روحه.
﴿فَلَوۡلَاۤ إِن كُنتُمۡ غَیۡرَ مَدِینِینَ ﴿٨٦﴾ تَرۡجِعُونَهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ أي: فهَلَّا إذا كنتم غير خاضِعِين لإرادة الله خضوعًا قدريًّا في حياتكم وموتكم تُرجِعُون روحَ صاحبكم، وتمنَعُون الموتَ عنه، وهذا على سبيلِ التعجيزِ والتحدِّي.
﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ ﴿٨٨﴾ فَرَوۡحࣱ وَرَیۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِیمࣲ﴾ أي: إذا كان الميِّت من أولئك المُقرّبين الذين تقدَّم ذِكرهم ووصفهم في صدر السورة فله الرَّوْح، أي: الحياة الطيّبة، وله الرَّيحان، وهو النبات العطر، والمقصود به تأكيد الحياة الطيّبة، وأنّ له جنَّة النعيم.
﴿وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ﴾ أي: من الصنف الثاني والمرتبة الثانية بعد المقرَّبين، وقد تقدَّم ذِكرهم ووصفهم في صدر السورة أيضًا.
﴿فَسَلَـٰمࣱ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ﴾ أي: تُبشِّرِهُ الملائكة وتقول له: سلامٌ لك؛ أنت من أصحاب اليمين.
﴿وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِینَ ٱلضَّاۤلِّینَ﴾ أي: من الصنف الثالث، وهم أصحاب الشمال، وقد تقدّم ذكرهم ووصفهم أيضًا.
﴿فَنُزُلࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ﴾ أي: أوّل ما يُقدَّم لهم الماء الحار، والنُّزُل: ما يقدّم للضيف، لكن هذا بِئسَ الضيف، وهذا هو النُّزُل الذي يلِيقُ به.
﴿وَتَصۡلِیَةُ جَحِیمٍ﴾ أي: يدخل في الجحيم ويَصْلَى فيها.
﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡیَقِینِ﴾ أي: هذا الحديث الذي فيه الوعدُ للمؤمنين، والوعيدُ للكافرين هو الحقُّ الثابت الذي لا شكَّ فيه ولا ريب.
﴿فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِیمِ﴾ هكذا خُتِمَت السورة بتمجيدِ الله وتعظيمِه، والأمر بتسبيحِه وتنزيهِه؛ فذلك طريقُ النجاة.