يقول تعالى: {ولقد أرْسَلْنا رُسُلَنا بالبيِّناتِ}: وهي الأدلَّة والشواهد والعلامات الدَّالَّة على صدق ما جاؤوا به وحقِّيَّتِهِ، {وأنزلنا معهم الكتابَ}: وهو اسم جنس يَشْمَلُ سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، {والميزانَ}: وهو العدلُ في الأقوال والأفعال، والدين الذي جاءت به الرُّسل كلُّه عدلٌ وقسطٌ في الأوامر والنَّواهي وفي معاملات الخَلْق وفي الجنايات والقِصاص والحدود والمواريث وغير ذلك، وذلك {ليقومَ الناسُ بالقسطِ}: قياماً بدين الله، وتحصيلاً لمصالحهم التي لا يمكنُ حصرُها وعدُّها، وهذا دليلٌ على أنَّ الرسل متَّفقون في قاعدة الشرع، وهو القيامُ بالقسط، وإنِ اختلفتْ صورُ العدل بحسب الأزمنة والأحوال، {وأنزَلْنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ}: من آلات الحرب؛ كالسلاح والدُّروع وغير ذلك، {ومنافعُ للناس}: وهو ما يشاهَدُ من نفعه في أنواع الصِّناعات والحرف والأواني وآلات الحَرْثِ، حتى إنَّه قَلَّ أن يوجَدَ شيءٌ إلاَّ وهو يحتاجُ إلى الحديد، {ولِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُه ورُسُلَه بالغيب}؛ أي: ليقيم تعالى سوقَ الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبيَّن من ينصُرُه وينصُرُ رسله في حالة الغيب، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها؛ لأنَّه حينئذٍ يكون ضروريًّا. {إنَّ الله لَقَوِيٌّ عزيزٌ}؛ أي: لا يعجِزُه شيءٌ ولا يفوته هاربٌ، ومن قوَّته وعزَّته أن أنزل الحديدَ الذي منه الآلاتُ القويَّة، ومن قوَّته وعزَّته أنه قادرٌ على الانتصار من أعدائه، ولكنَّه يبتلي أولياءه بأعدائه؛ ليعلم من ينصرُهُ بالغيب. وقَرَنَ تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد؛ لأنَّ بهذين الأمرين ينصر الله دينه ويُعلي كلمته: بالكتاب الذي فيه الحجَّة والبرهان، والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامُهُ بالعدل والقِسْط، الذي يستدلُّ به على حكمةِ الباري وكماله وكمال شريعتِهِ التي شرعها على ألسنة رسله.