سورة الحديد تفسير مجالس النور الآية 1

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة الحديد

المجلس الثامن والأربعون بعد المائتين: وأنفقوا مما جعلكم مُستخلَفين فيه


الآية (1- 24)


سورةُ الحديد سورةُ القوَّة؛ قوَّة الإيمان، وقوَّة اليقين، وقوَّة الولاء والانتماء، وقوَّة العهد والميثاق، وقوَّة المال، وقوَّة الحديد، وقوَّة الحقِّ والعدل، إلَّا أنّ الموضوع الذي تكرَّر بشكلٍ لافتٍ هو موضوع الإنفاق، والإنفاق الوارد في هذه السورة مرتبطٌ بكلِّ معاني القوّة تلك، وكما سنرى:
أولًا: تستهلُّ السورة بتسبيح الله وتمجيده وأنّه سبحانه العزيز الحكيم، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهو القدير العليم، هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يملِكهما ويُدبِّر أمرهما، وهو الذي استوَى على العرش سبحانه ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴿١﴾ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ ﴿٢﴾ هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ ﴿٣﴾ هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَیۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ ﴿٤﴾ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ﴿٥﴾ یُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَیُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۚ وَهُوَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾.
هذه المعاني تُشكِّل القاعدة الإيمانيَّة الصلبة والمُتماسِكة، والتي تقوم عليها الملَّة والأُمّة؛ فالأُمّة المحمَّديَّة تنطلِق من هذه القاعدة في كلِّ قِيَمهما وتصوُّراتها وسُلُوكها وتعامُلها اليومي مع مُفردات الحياة.
ثانيًا: بعد هذه القاعدة يتوجَّه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين بثلاث مفرداتٍ جوهريَّة: الإيمان، والاستخلاف، والإنفاق، والاستخلاف هو الرابط بين المفردَتَين الأُخرَيَين؛ إذ من معاني الإيمان إفراده ـ باعتقاد أنّه مالك السماوات والأرض وما فيهنّ، وعليه فإنّ المال الذي بيدِ الإنسان ليس ملكه على الحقيقة، وإنّما هو مُستخلَفٌ فيه عن الله على وجه التخويل المقيّد زمانًا ومكانًا، وتصرُّفًا وحالًا.
من هنا يكون الأمر بالإنفاق هو أمرٌ من المالك الحقِّ إلى هذا العبد المخوَّل؛ وبهذا لا يكون المُنفِق مُتفضِّلًا، بل مطيعًا ووفيًّا؛ وبهذا يستحقُّ الثواب ﴿ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِینَ فِیهِۖ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرࣱ كَبِیرࣱ﴾، ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِیرَ ٰ⁠ثُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾.
ثالثًا: يُؤكِّدُ القرآن صِلَةَ الإيمان بالميثاق الذي يجمع المؤمنين، ويُميِّزهم عن الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب في الدنيا والآخرة ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ یَدۡعُوكُمۡ لِتُؤۡمِنُواْ بِرَبِّكُمۡ وَقَدۡ أَخَذَ مِیثَـٰقَكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾، ﴿یَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ یَسۡعَىٰ نُورُهُم بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡیَوۡمَ﴾، ﴿یَوۡمَ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِیلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَاۤءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورࣰاۖ فَضُرِبَ بَیۡنَهُم بِسُورࣲ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِیهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ﴿١٣﴾ یُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِیُّ حَتَّىٰ جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ﴿١٤﴾ فَٱلۡیَوۡمَ لَا یُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡیَةࣱ وَلَا مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِیَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ ﴿١٥﴾ ۞ أَلَمۡ یَأۡنِ لِلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا یَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ فَـٰسِقُونَ﴾، ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلصِّدِّیقُونَۖ وَٱلشُّهَدَاۤءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ﴾.
رابعًا: يربط القرآن بين الإنفاق وبين بناء الدولة المسلمة والجيش القويّ الكفيل بحمايتها وردِّ الأشرار عنها ﴿لَا یَسۡتَوِی مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةࣰ مِّنَ ٱلَّذِینَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُواْۚ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ﴾.
خامسًا: يَعِدُ القرآن المُنفِقين والمُنفِقات بالأجر الكريم ومضاعفة الحسنات، ويجعل ما يقومون به كمن يُقرِض الله قرضًا، والله سبحانه أحقُّ بالوفاء، وهذا وعدٌ عظيمٌ لو تدبَّره المُنفِق وتدبَّرته المُنفِقة ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِی یُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا فَیُضَـٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥۤ أَجۡرࣱ كَرِیمࣱ﴾، ﴿إِنَّ ٱلۡمُصَّدِّقِینَ وَٱلۡمُصَّدِّقَـٰتِ وَأَقۡرَضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا یُضَـٰعَفُ لَهُمۡ وَلَهُمۡ أَجۡرࣱ كَرِیمࣱ﴾.
سادسًا: يُزهِّدُ القرآنُ المؤمنين بالدنيا ويُرغِّبُهم بالآخرة، وفي هذا دفعٌ لهم ليُنفقوا من أموالهم باندفاعٍ وإقدامٍ، وليُقدِّموا ما يستطيعون من دار الممَرِّ إلى دار المقَرِّ، ومن دار الفناء إلى دار البقاء ﴿ٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ وَفِی ٱلۡأَخِرَةِ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱۚ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ ﴿٢٠﴾ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَ ٰ⁠لِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ﴾.
سابعًا: يُثبِّتُ الله قلوبَ المؤمنين، ويمدُّهم بأسباب القوة واليقين، ويُبيِّنُ لهم الحكمةَ من الابتلاءات والمصائب التي تعترِضُهم ﴿مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣱ ﴿٢٢﴾ لِّكَیۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورٍ﴾.
ثامنًا: يعود القرآن إلى الإنفاق محذِّرًا المؤمنين من عاقبة البخل ﴿ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ ۗ وَمَن یَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾.


﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ استفتاحٌ بخضوع كلِّ هذا الكون لله تعالى، وتنويهٌ بصفتَين عظيمتَين من صفات الله تعالى: العزة والحكمة، ومناسبتهما لموضوع السورة لا تخفى.
﴿لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾ تأكيدٌ لمعنًى أساس من معاني التوحيد، وهو الاعتقاد الجازم أنّ هذا الكون كلّه بمن فيه وما فيه مملوكٌ لله، يتصرَّف فيه بإرادته المُطلقة وبمقتضى عدله وحكمته، ثم نوَّه بصفةٍ ثالثة لله، وهي صفة القدرة، ومناسبتها لا تخفَى أيضًا.
﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ﴾ فلا شيء قبله، ولم يكن ثَمَّة شيء معه؛ لأنّه موجودٌ وجُودًا ذاتيًّا لا يفتَقِر في وجوده إلى أحدٍ، بخلاف كلّ الموجودات التي يتصوَّر العقلُ وجودَها وعدَمَها، وهي التي تُسمَّى المُمكِنات، فهذه لا بُدَّ أن يكون لها سببٌ وعِلَّةٌ في وجودها، ثم لا بُدّ أن ترجع كلّ هذه الممكنات وأسبابها وعللها إلى موجودٍ ذاتيٍّ، يستنِدُ الوجودُ كلّه إليه.
أما إحالة الممكن إلى ممكنٍ آخر، والسبب إلى سببٍ آخر إلى ما لا نهاية، فهذا لا يتصوَّرُه العقل، ومِن ثَمَّ كان الوجود الذاتي - وهو المسمى عند الفلاسفة (واجب الوجود) أي: بخلاف (الممكن الوجود) - ضرورة عقليَّة قبل أن تكون عقيدة دينيَّة.
﴿وَٱلۡـَٔاخِرُ﴾ وهذا من لوازِم اسمه تعالى (الأوّل)، ومعنى (الآخر) هنا: الذي ليس لوجوده نهاية، كما لم يكن له بداية، بخلاف الممكن الذي طرأ عليه الوجود؛ إذ سيطرأ عليه العدم أيضًا.
﴿وَٱلظَّـٰهِرُ﴾ بآياته ودلائل وجوده وآثار قدرته وعلمه وحكمته.
﴿وَٱلۡبَاطِنُۖ﴾ حيث لا تُدرِكُهُ الأبصار، ولا تُحيطُ بحقيقته وكُنهه الأفكار.
﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ﴾ هي ليست من أيَّامنا؛ لأن يومنا هو حصيلة دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولكلِّ كوكبٍ يومه، فكيف باليوم الذي كان قبل خلق السماوات والأرض؟ فذلك لا يعلمه إلَّا الله، والمقصود بالإخبار عن تلك الأيَّام إنّما هو التقدير على مراحل كما هي سنَّة الخلق كلّه.
﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ﴾ استواء يَلِيقُ بعظمة الله وجلاله، وعلوِّه وغناه عن جميع خلقه؛ العرش وما سوى العرش، وهذه من الأخبار الغيبيَّة التي نؤمن بها كما ورَدَت، ونُحجِم عن الدخول في كيفيّاتها وصورتها؛ لأنّ العقل لا يملك الأدوات القادرة على ذلك، ثم نتدبَّر المقصود من إخبارنا بها، وهو مقصودٌ يسيرٌ على من يسَّره الله عليه؛ فالنصّ يُوحي بكمال المُلك والسلطان والعظمة والعلو المطلق، وهذا يكفي ويُريح عقولنا وقلوبنا من الجدل الذي لا نتيجة له.
﴿یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ أي: يعلم ـ كلّ ما يدخل في الأرض وينزل فيها.
﴿وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا﴾ أي: ويعلم كلّ ما يخرج من الأرض؛ كالزروع وينابيع المياه والمعادن ونحوها.
﴿وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ أي: ويعلم كلّ ما ينزل من السماء؛ من الوحي، ومن الملائكة، ومن الظواهر الكونيّة؛ كالمطر والشُّهب والصواعق.
﴿وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۖ﴾ أي: ويعلم كلّ ما يصعد في السماء؛ من أرواحٍ مقبوضةٍ، وأعمالٍ مرفوعةٍ، وملائكةٍ تعرج بأمره ـ.
﴿وَهُوَ مَعَكُمۡ أَیۡنَ مَا كُنتُمۡۚ﴾ أي: بإحاطته علمًا بكلِّ شأنكم أينما كنتم، فعِلمُ الله تعالى ليس مُقتصِرًا على المُشاهَدات مما يَلِجُ ويخرُجُ من الأرض، وما ينزل من السماء، بل هو معكم في تفكيركم وما يدور في خواطركم .
﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ﴾ تأكيدٌ لعلم الله الشامل والكامل، ودعوةٌ إلى إتقان العمل وتنقيته عن كلِّ شائبةٍ.
﴿لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ بحكم أنَّه هو الذي خلَقَه، فصانِعُ الشيء أحقُّ بملكيَّته، وهذه من معاني التوحيد العظيمة والمُكرَّرة في القرآن الكريم.
﴿یُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَیُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۚ﴾ أي: يدخل الليل في النهار حتى يختلط فيه وذلك وقت المغرب، ويدخل النهار على الليل وذلك وقت الفجر، في دورةٍ يوميَّةٍ متصلةٍ بحياة الناس وطريقة عيشهم ونومهم.
﴿وَهُوَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ تأكيدٌ آخر لعلمه تعالى الشامل والكامل، ودعوةٌ لتنقية النوايا وما تُخفِي الصدور.
﴿ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾ الخطاب للمؤمنين تأكيدًا لمعاني الإيمان فيهم، وتأسيسًا لتقبُّل أمر الله تعالى لهم بالإنفاق.
﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِینَ فِیهِۖ﴾ أي: أَنْفِقُوا من مال الله الذي جعله بأيديكم على سبيل التخويل والاختبار والاستخلاف.
﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ یَدۡعُوكُمۡ لِتُؤۡمِنُواْ بِرَبِّكُمۡ﴾ هذا ليس على سبيل النفي، بل هو على سبيل الامتِنان، أي: ماذا يمنَعُكم مِن الإيمان، والرسول بينكم يدعوكم ويُذكِّرُكم؟ فالخطاب من الأصل للمؤمنين، وليس للكافرين، والسياق لا يحتمل غير هذا؛ بدلالة دعوتهم إلى الإنفاق، ولقوله: ﴿فَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرࣱ كَبِیرࣱ﴾ ولتذييله على هذا الامتِنان بقوله: ﴿إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ فالخطاب كلّه للمؤمنين، يمتنُّ عليهم بالإيمان، ويحثّهم على الإنفاق الذي هو ثمرةٌ من ثمرات الإيمان.
﴿وَقَدۡ أَخَذَ مِیثَـٰقَكُمۡ﴾ العهد الذي قطَعَه المسلمون على أنفسهم مع رسول الله ، والذي يتضمَّن السمع والطاعة، والجهاد بالنفس والمال.
﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِیرَ ٰ⁠ثُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ هذا ترغيبٌ آخر بالإنفاق، وتذكيرٌ بأنّ المُلك الحقّ إنّما هو لله وحده، وفي هذا طمأنةٌ أيضًا أنّ الرزَّاق هو الله مالِكُ المُلك، فلا تمنعنَّكم خشيةُ الفقر عن الإنفاق.
﴿لَا یَسۡتَوِی مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةࣰ مِّنَ ٱلَّذِینَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُواْۚ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ﴾ الآية صريحةٌ في أنَّ الذين فازوا بالسبق والثواب الأعظم هم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار؛ حيث كان الكفر مهيمنًا، والظلم منتشرًا، وكان الذي يقول كلمة الحقّ يخشى على نفسه وأهله، فالذين ثبَتُوا وواصَلُوا الدعوة والعمل للإسلام، وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم في تلك الأيام العصيبة لا شكّ أنّهم أقرب لله، وأرفع درجة عنده مِمّن آمَنَ بعد فتح مكّة وأنفق وقاتل.
وإذا كان هذا التفاضُل بين المؤمنين وهم كلّهم حول رسول الله ، فإنّ فضل الصحابة على عامّة المسلمين إلى يوم الدين أظهَر وأَولَى، فرضِيَ الله عنهم وأرضاهم، وجمَعَنا وإيَّاهم في دار المقامة عنده.
أمَّا من يُحاول الانتقاص من الصحابة الذين أسلَموا بعد الفتح، فهو مردودٌ بنصِّ قوله تعالى: ﴿وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾؛ ففضلُ هؤلاء الأصحاب على عامَّة المسلمين ظاهرٌ وإن كانوا هم دون السابقين الأوّلين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
﴿مَّن ذَا ٱلَّذِی یُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا فَیُضَـٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥۤ أَجۡرࣱ كَرِیمࣱ﴾ أي: مَثَلُ المُنفِق في سبيل الله كمَثَلِ من يُقرِضُ الله قرضًا حسنًا فينتظر مِن الله أن يرُدَّ إليه قرضه، وغايةُ التمثيل: حضُّ المؤمنين على الإنفاق، وطمأنتهم أنّ نفقتهم لا تذهب سُدى، بل ترجع إليهم أضعافًا كثيرة، مع عظيم الثواب وجزيل الفضل.
﴿یَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ یَسۡعَىٰ نُورُهُم بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ﴾ ذاك يوم القيامة؛ إذ يكون للمؤمن نورٌ يسعى أمامه، وهذا النور نورٌ على الحقيقة، ولتعلَق الآية بما قبلها إشارة إلى أنّ هذا النور من آثار الصدقة وعظيم ثوابها عند الله.
﴿وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۖ﴾ أي: ويكون نورهم عن جهة أيمانهم أيضًا، ولعلَّ المقصود: اليمين والشمال، لكنَّه اكتفى بذكر اليمين؛ تشريفًا لها، والله أعلم.
﴿بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡیَوۡمَ جَنَّـٰتࣱ﴾ أي: يُقال لهم: بُشراكم، بمعنى أنّ الملائكة تُرحِّبُ بهم وتُبشِّرُهم بالجنَّات.
﴿ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ﴾ هذه صورةٌ من صور الآخرة تُظهِرُ خيبةَ المنافقين؛ حيث يرَون نورَ المؤمنين أمامهم وعن جوانبهم وهم ماشُون إلى جنَّاتهم، فتأخذهم الحسرة، ويأخذون بمُناداتهم: أن تريَّثوا وتمهَّلوا لعلَّنا نستضِيءُ بنوركم، لعلَّنا نلحَق بكم، وهؤلاء المنافقون يعرفون المؤمنين؛ لأنّهم كانوا معهم في الدنيا؛ إذ كانوا يُظهِرون لهم إيمانهم، ويصلُّون معهم، ويعيشون معهم.
﴿قِیلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَاۤءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورࣰاۖ﴾ يُقالُ لهم: ارجعوا القهقرَى، والتمِسُوا نورًا آخر غير نور هؤلاء المؤمنين، وليس هنالك من نورٍ، وإنّما يُقال لهم ذلك على سبيل التهكُّم.
﴿فَضُرِبَ بَیۡنَهُم بِسُورࣲ﴾ بحائلٍ يحول بين المنافقين والمؤمنين، فلا يصِلُون إليهم بعدُ ولا يرَون نورهم.
﴿بَاطِنُهُۥ فِیهِ ٱلرَّحۡمَةُ﴾ الذي هو من جِهة المؤمنين.
﴿وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ﴾ الذي هو من جِهة المنافقين.
﴿یُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ﴾ هذا نداءٌ المنافقين للمؤمنين، يقولون لهم: لقد كنّا معكم في الدنيا.
﴿قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِیُّ حَتَّىٰ جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾ هذا جواب المؤمنين للمنافقين؛ أنّكم كنتم معنا لكنّكم كفرتم بعد إيمانكم، وتربَّصْتُم بنا الشرّ، وشكَكتم بالبعث ويوم الحساب، وغرَّتْكُم الحياة الدنيا، وغرَّكُم الشيطان عن طاعة الرحمن، حتى جاءكم الموت وأنتم على ذلك.
﴿فَٱلۡیَوۡمَ لَا یُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡیَةࣱ وَلَا مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْۚ﴾ هذا على سبيل التيئِيس والتوبيخ؛ فليس هناك عندهم ما يُقدِّمونه فِدية عنهم، وهذا بخلاف المتصدِّق الذي يُقدِّم مالَه ليكون له ثوابًا ونورًا مبينًا في هذا اليوم.
﴿۞ أَلَمۡ یَأۡنِ لِلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ﴾ الخطاب للمؤمنين قَطعًا، وليس للمُنافقين ومرضَى القلوب.
وقد أشكَلَ هذا على بعض المُفسِّرين، والذي يَطمئِنُّ إليه القلب: أنّ هذه الآية في مقام التربية الروحيَّة، وهو مقامٌ عالي المراتِب، مُتدرِّج المنازل، لا يفقَهُه إلا قليل، فمِعراج التربية لا يقف عند حدٍّ، والهِمَم العليَّة دائمًا تتطلَّعُ للمعالي مهما بلَغَتْ من الدرجات، والذي لا ينتبه لهذا المقام سيُشكِل عليه كثيرٌ من آياته، من مثل قوله تعالى بحقِّ صفيِّه وحبيبه ومُجتباه: ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ﴾ فأيُّ ذنبٍ ذاك الذي يرتكبه رسولُ الله ؟
إن مقام العبوديَّة يستوجِبُ شعورَ العبد بالذنب والتقصير والعجز دائمًا وأبدًا، حتى لو قام الليل وصام النهار، وكفَى بالعبد عقوقًا أن يظنَّ في نفسه أنّه قد أدَّى ما عليه وأَوفَى ما بذمَّته، والصحابة  إنّما أرادَ الله أن يأخذ بأيديهم في هذا المقام العالي، لا أن يلُومَهم على ترك الخشوع، ولستُ أدري مَن مِن الصحابة كان يقرأ القرآن ولا يخشَع، وقد كان المشركون أنفسهم تتصدَّع قلوبُهم لفصاحته وبيانه، حتى قالوا عنه أنّه سحرٌ، وأنّه شِعرٌ.
﴿وَلَا یَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ﴾ هذا تحذيرٌ للمؤمنين عامَّة من أن يطُولَ بهم الأمد فتقسُو قلوبهم؛ إذ طول الأمد دون تعاهُدٍ للقلب بالذِّكرِ والخشية، والمحاسبة والمراقبة، والصحبة الصالحة مِن شأنه أن يُقسِّي القلوبَ ويُصيبها بالجفاف، والصحابة كانوا قريبًا عهدهم بالقرآن وهم بين يدَي رسول الله ، فهم أبعَد الناس عن هذه القسَاوَة التي يُسبِّبُها طولُ الأمد.
﴿ٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ یُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ﴾ هذا مَثَلٌ مِن الواقع؛ قُصِدَ به تقريبُ صورة القلوب التي تحيَا بنور الوحي بصورة الأرض التي تحيَا بماء السماء؛ فالسياق التربويُّ لا زال مُتَّصِلًا، والخطاب للمؤمنين لا زال قائمًا.
﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلصِّدِّیقُونَۖ وَٱلشُّهَدَاۤءُ﴾ الذين يشهَدون على الناس، ويشهَدون على الأمم الأخرى، ويشهَدون للرُّسل عليهم السلام أنّهم قد بلَّغُوا ما أمرهم الله بتبليغه، وأقاموا الحجة على خلقه.
وهناك صلةٌ لطيفةٌ بين ﴿ٱلصِّدِّیقُونَۖ﴾ و﴿وَٱلشُّهَدَاۤءُ﴾؛ إذ الذي يُعطِيه الله مرتبةَ الشهود على الناس لا بُدَّ أن يكون صادقًا معرُوفًا بالصدق ومُشتهِرًا به.
﴿ٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ﴾ قصرُ الدنيا على هذه الأخبار من اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثُر هو قَصرٌ لأحوال الناس في الدنيا، فهذه هي اهتِماماتهم ومجالات تنافُسهم، والله يُريدُ لهم غيرَ ذلك؛ فالدنيا خُلِقَت لمقصدٍ أسمى وأعلى؛ إنّه الاستخلاف عن الله، والتنافُس في القُرُبات، والاستعداد فيها ليوم الحساب والجزاء.
﴿كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ﴾ أي: حال هؤلاء وهم يتنافَسُون على متاع الدنيا كحال (الكفَّار)، وهم هنا الزُّرَّاع الذين يستبشِرُون بالغيث، ثم بما ينبُتُ منه، ثم يهِيجُ هذا النبات حتى يتحوَّل لونُه من الخُضرة إلى الصُّفرة، ثم يكون هشيمًا مُحطَّمًا.
وهذا التمثيلُ والتصويرُ إنّما قُصِد به: تزهيدُ الناس في الدنيا، وتشجيعهم على الصدقات؛ لأنّ الصدقة أبقَى وأنفَع لهم من الحطام الزائل الذي يجمعونه ثم يتركونه وراءهم.
﴿وَفِی ٱلۡأَخِرَةِ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱۚ﴾ فهذه عاقبة جهد البشر في هذه الحياة؛ إمَّا عذابٌ أليم، أو نعيمٌ مقيم، وعلى العاقل أن يختار لنفسه.
﴿سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ أي: سارعوا قبل أن يحكم الأجل، ويغلق باب العمل.
﴿وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ العرض هنا: السعة، وليس هو الذي يُقابل الطول، بمعنى أنّ سعتها سعة السماوات والأرض.
﴿مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ﴾ أي: كلّ ما يحدث لكم في هذه الحياة وما يحدث على الأرض إنّما هو مدوّنٌ في عِلم الله ومحفوظٌ عنده.
﴿مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤۚ﴾ أي: نخلقها ونُظهرها للوجود لكم، بمعنى أنّ صورة الخلق كاملة وشاملة بكلِّ تفاصيلها موجودةٌ في علم الله، فإنّما يجرِي الخلقُ على علمٍ مِن الله سابِق، وإنّما يتفاجَأ البشر؛ لعدم معرفتهم بالغيب، ولا بما قدّره الله لهم.
﴿لِّكَیۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾ بمعنى أنّ الله يُخبركم بذلك تربيةً لكم حتى لا تحزَنوا ولا تيأَسُوا على ما فاتَكم مما تتمنَّونه من الخير، ولا تفرَحُوا الفرحَ الذي يُنسِيكم الشكر، ويُنسِيكم القيام بواجباتكم إذا جاءت الأقدار على وفق رغباتكم، ثم حذَّر أكثر من الوقوع في هذا الخُلق السيِّئ ﴿وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورٍ﴾ والمُختالُ: المُتكبِّر، وأصلُه من الخيلاء، والفخور: الذي يُفاخِرُ الناس بما عنده.
﴿ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ ۗ﴾ الذين يبخلون بما عندهم فلا يؤدُّون ما عليهم من صدقاتٍ ونفقاتٍ واجبة، ثم ينهَون غيرهم كأنّهم ينصَحونهم أن يحتفظوا بأموالهم، خاصَّةً إذا كانوا من أقربائهم أو أصدقائهم، وهذه ظاهرةٌ موجودةٌ ومتكررةٌ في السلوك البشري، لكن خطورتها تكمُن حينما تنبُع عن قصدٍ سيِّئٍ؛ كمَن لا يُريد لمشاريع الخير أن تنتشر، ولا أن يرَى أموال المسلمين تُصرَف فيما فيه خيرُهم وعزّتهم ومنَعَتهم، فهذا لا شكّ آيةٌ من آيات النفاق، والعياذ بالله.
﴿وَمَن یَتَوَلَّ﴾ أي: ومَن يُعرِض عمّا افترضه الله عليه، وهو هنا: الإنفاق.
﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾ جواب الشرط، بمعنى أنّه تعالى مُستغنٍ عن صدقة هؤلاء، وإنّما يكلِّفهم بها جَريًا على سنَّته في الاختبار وتمييز الناس مُصلِحهم عن مُفسِدهم، والحميد: الذي يستحقُّ الحمد سبحانه بحكم ربوبيّته، وتفضّله على خلقه بالرزق وغيره.