﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ﴾ بالآيات الواضِحات، والحُجَج الظاهرات.
﴿وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ الكتاب يشمَل الكتب السماويَّة كلها، والميزان: المِعيار الذي يعرف فيه الحق من الباطل، والصحيح من الخطأ، وغاية الكتاب والميزان: تحقيق القسط بين الناس، والقسط: العدل في كل شيء.
﴿وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ﴾ لأنه المعدن الذي يصنع منه السلاح، والبأس: القوَّة.
﴿وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ﴾ أي: ليظهر ما كان في علم الله من نصر المؤمنين للحق، وأما الله تعالى فليس بمُحتاجٍ لنُصرة أحد، وليس بمُتضرِّرٍ مِن ظلم - تبارك ربُّنا وتعالى -، وقوله:
﴿بِٱلۡغَیۡبِۚ﴾ أي: الذي ينصُرُ اللهَ ورسلَه إيمانًا بالغيب، وطلَبًا لثوابِ الآخرة، وليس بقَصد الغنيمة أو الشُّهرة وما إلى ذلك.
﴿ثُمَّ قَفَّیۡنَا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا﴾ أي: أردَفنا وأتبَعنا نوحًا وإبراهيم ومَن معهما بالرسل الذين جاءوا من بعدهم.
﴿وَقَفَّیۡنَا بِعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَ﴾ أي: أتبَعنا أولئك الرسل أيضًا بعيسى بن مريم
عليه السلام.
﴿وَرَهۡبَانِیَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَـٰهَا عَلَیۡهِمۡ﴾ الرهبانية: نوعٌ من التديُّن المُبتدَع في النصرانية، يدعو إلى الانقطاع عن الدنيا وملذَّاتها حتى الزواج، للتفرُّغ للعبادة، وأثر البدعة فيه واضح؛ إذ لم يُؤثَر عن الأنبياء السابقين مثل هذه الدعوة؛ حيث كان النبيُّون - ومنهم أولُو العزم -يتزوَّجون ويعمَلون للدنيا، والآية صريحةٌ في ابتِداعها.
﴿إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ رِضۡوَ ٰنِ﴾ أي: ما كتَبنا عليهم إلا ما فيه ابتِغاء رِضوان الله، فيكون المعنى كله هكذا: ورهبانية ابتَدَعوها من أنفسهم ما كتَبنَاها نحن عليهم، وإنما كتَبنا عليهم ما فيه رِضوان الله.
﴿فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَایَتِهَاۖ﴾ أي: لم يقوموا بما ألزَمُوا أنفسَهم به؛ من التفرُّغ للعبادة و
الإخلاص لله، فهنا أعَابَ عليهم الرهبانيّة؛ لأنها بدعة منهم، وأعَابَ عليهم النكوث عن دعواهم بإخلاص العبوديَّة لله والتجرُّد له، بل دخَلُوا في دين مُلُوكهم، وحرَّفُوا رسالةَ نبيِّهم.
﴿فَـَٔاتَیۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ فَـٰسِقُونَ﴾ هذا احتِرازٌ مِن توهُّم التعمِيم في الحكم؛ فالنصارى ليسوا كلهم سواء، فمنهم المؤمن الثابت الذي لم ينحرِف بعقيدته، فهؤلاء لهم ثوابهم وأجرهم، ومنهم الذي انحرَفَت به جادَّتُه، وزلَّت به قدَمُه، فعليه إثمه وخطيئته، وفي هذا التقسيم تمهيدٌ لدعوة المؤمنين منهم كما سيأتي.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ یُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَیۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ﴾ هذا تفريعٌ عمّا تقدَّم؛ فالنصارى الذين امتدَحَهم الله، وأثبَتَ لهم الإيمان، وبرَّأَهم من الفِسق، دعاهم هنا للإيمان برسوله محمدٍ
ﷺ، وحثَّهم على استحضار التقوى، وهي: الخشيةُ من الله حتى لا ينحازُوا لعصبيَّةٍ، ولا يستَسلِمُوا لدواعِي الحَسَد، ثم رغَّبَهم بمُضاعَفَة الأجر.
وقد ورد في الصحاح ما يُعضِّد أنهم هم المقصودون بهذا الخطاب؛ حيث قال
ﷺ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَينِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِي، فَلَهُ أَجْرَانِ ... الحديث».
﴿لِّئَلَّا یَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَلَّا یَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَیۡءࣲ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِیَدِ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين أصَرُّوا على كُفرهم، ولم يُؤمنوا بمحمدٍ
ﷺ؛ إذ الذين آمنوا منهم دخلوا في اسم المؤمنين ولم يعُد يُطلق عليهم اسمُ أهل الكتاب، بل هم مؤمنون عندهم علم الكتاب.
ومعنى اللام في
﴿لِّئَلَّا﴾ سيكون للعاقبة، بمعنى أن أهل الكتاب سيبقَون على جَهلهم وعِنادهم، ولا يعترفون بهذا الفضل لمن آمَن منهم بمحمدٍ
ﷺ، فهم لا يعلَمُون أنهم لا يَقدِرون على شيءٍ من فضل الله؛ لتوهُّمِهم أنَّ هذا الفضلَ لهم وحدهم، ولكن الفضل لله وحده يهَبُه من يشاء، ويسلبه عمَّن يشاء.