فهذان الصنفان الفاضلان الزكيَّان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سَبَقوا به مَن بعدَهم وأدركوا به مَن قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين وقادات المتَّقين، وحسب من بعدهم من الفضل أن يسيرَ خلفَهم ويأتمَّ بهُداهم، ولهذا ذكر الله من اللاحقين مَن هو مؤتمٌّ بهم [وسائر خلفهم]، فقال: {والذين جاؤوا من بعدِهم}؛ أي: من بعد المهاجرين والأنصارِ، {يقولون}: على وجه النُّصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: {ربَّنا اغْفِرْ لنا ولإخوانِنا الذين سَبَقونا بالإيمانِ}: وهذا دعاءٌ شاملٌ لجميع المؤمنين من السابقين من الصحابة ومَن قبلَهم ومَن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان؛ أنَّ المؤمنين ينتفعُ بعضُهم ببعض ويدعو بعضُهم لبعض؛ بسبب المشاركةِ في الإيمان، المقتضي لعقد الأخوَّة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعوَ بعضُهم لبعض، وأن يحبَّ بعضُهم بعضاً، ولهذا ذكر الله في هذا الدعاء نفي الغلِّ عن القلب، الشامل لقليلِه وكثيرِه، الذي إذا انتفى؛ ثبت ضدُّه، وهو المحبَّة بين المؤمنين والموالاة والنصح ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين، فوصفَ الله مَن بعد الصحابة بالإيمان؛ لأنَّ قولهم: {سَبَقونا بالإيمان}: دليلٌ على المشاركة فيه ، وأنَّهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التامُّ إلاَّ عليهم، وَوَصَفَهم بالإقرار بالذُّنوب والاستغفار منها واستغفار بعضهم لبعض واجتهادهم في إزالة الغلِّ والحقدِ [عن قلوبهم] لإخوانهم المؤمنين؛ لأنَّ دعاءهم بذلك مستلزمٌ لما ذكرنا ومتضمِّنٌ لمحبَّة بعضهم بعضاً، وأنْ يحبَّ أحدُهم لأخيه ما يحبُّ لنفسه، وأن ينصحَ له حاضراً وغائباً حيًّا وميتاً. ودلَّت الآية الكريمة على أنَّ هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض. ثم ختموا دعاءهم باسمينِ كريمينِ دالَّين على كمال رحمة الله وشدَّة رأفته وإحسانه بهم، الذي من جملته: بل [من] أَجَلِّه توفيقُهم للقيام بحقوقه وحقوق عباده. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقُّون للفيء، الذي مصرفه راجعٌ إلى مصالح الإسلام، وهؤلاء أهله الذين هم أهلُه، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.