سورة الحشر تفسير السعدي الآية 9

وَٱلَّذِینَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِیمَـٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ یُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَیۡهِمۡ وَلَا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمۡ حَاجَةࣰ مِّمَّاۤ أُوتُواْ وَیُؤۡثِرُونَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةࣱۚ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ﴿٩﴾

تفسير السعدي سورة الحشر

ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى أموال الفيء لمن قدَّرها له، وأنَّهم حقيقون بالإعانة، مستحقُّون لأن تُجعل لهم، وأنهم ما بين مهاجرين؛ قد هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال رغبةً في الله ونصرةً لدين الله ومحبةً لرسول الله؛ فهؤلاء هم الصادقون؛ الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدَّقوا إيمانَهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقَّة؛ بخلاف مَنِ ادَّعى الإيمان وهو لم يصدِّقْه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصار، وهم الأوس والخزرج، الذين آمنوا بالله ورسوله طوعاً ومحبةً واختياراً، وآووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوَّءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدانُ كلُّها بلدانَ حربٍ وشركٍ وشرٍّ، فلم يزل أنصارُ الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي وجعل يزداد شيئاً فشيئاً، [وينمو قليلاً قليلاً] حتى فتحوا القلوبَ بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدانَ بالسيف والسنان، الذين من جُملة أوصافهم الجميلة أنهم {يحبُّون مَن هاجَر إليهم}، وهذا لمحبَّتهم لله ورسوله، أحبُّوا أحبابه، وأحبُّوا من نصر دينه. {ولا يجِدونَ في صدورهم حاجةً مما أوتوا}؛ أي: لا يحسُدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضلهِ وخصَّهم به من الفضائل والمناقب الذين هم أهلها. وهذا يدلُّ على سلامة صدورهم وانتفاء الغلِّ والحقد والحسد عنها، ويدلُّ ذلك على أنَّ المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأنَّ الله قدَّمهم بالذِّكر، وأخبر أنَّ الأنصارَ لا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا، فدلَّ على أنَّ الله تعالى آتاهم ما لم يؤتِ الأنصارَ ولا غيرهم، ولأنَّهم جمعوا بين النصرة والهجرة، وقوله: {ويؤثِرونَ على أنفسِهِم ولو كان بهم خَصاصةٌ}؛ أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم وتميَّزوا بها عمَّن سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحابِّ النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغيرِ، مع الحاجة إليها، بل مع الضَّرورة والخَصاصة، وهذا لا يكون إلا من خُلُقٍ زكيٍّ ومحبَّة لله تعالى مقدَّمة على [محبة] شهوات النفس ولذَّاتها. ومن ذلك قصَّة الأنصاريِّ الذي نزلت الآية بسببه حين آثر ضيفَه بطعامه وطعام أهله وأولادِهِ وباتوا جياعاً. والإيثار عكس الأثَرَةِ؛ فالإيثارُ محمودٌ، والأثَرَةُ مذمومةٌ؛ لأنَّها من خصال البخل والشحِّ، ومن رُزِق الإيثار؛ فقد وُقِيَ شُحَّ نفسِه، {ومَن يوقَ شُحَّ نفسهِ فأولئك همُ المفلحونَ}: ووقايةُ شحِّ النفس يشمل وقايتها الشحَّ في جميع ما أمر به؛ فإنَّه إذا وُقِيَ العبدُ شحَّ نفسه؛ سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعاً منقاداً منشرحاً بها صدرُه، وسمحت نفسه بترك ما نهى اللهُ عنه، وإنْ كان محبوباً للنفس؛ تدعو إليه وتطلَّع إليه، وسمحتْ نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاءِ مرضاتِه، وبذلك يحصُلُ الفلاح والفوزُ؛ بخلاف مَنْ لم يوقَ شحَّ نفسه، بل ابْتُلِيَ بالشُّحِّ بالخير الذي هو أصل الشرِّ ومادته.