سورة الحشر تفسير مجالس النور الآية 23

هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَیۡمِنُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ ﴿٢٣﴾

تفسير مجالس النور سورة الحشر

المجلس الثالث والخمسون بعد المائتين: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله


الآية (18- 24)


في خِتام هذه السورة المباركة توجَّهَ القرآنُ بالخطاب إلى المؤمنين يُذكِّرهم بالله وبأسمائه وصفاته، ويُذكِّرهم بعظمة هذا القرآن، ويحثّهم على استحضار التقوى في كلِّ ما يعملون، ويعِدُهم على ذلك بالجزاء الأَوفَى، وكما يأتي:
أولًا: يذكِّرُ القرآن الكريم الذين آمنوا بالتقوى ومحاسبة النفس، والعمل لما بعد الموت، وهذه أُسُس التزكية التي يعتمدها القرآن في صَقل النفوس وتهذيبها ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسࣱ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدࣲۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾.
ثانيًا: يذكّرهم القرآن أيضًا بأنَّ تميُّز المؤمنين عن أولئك الغافلين الكافرين في هذه الدار هو الذي سيُميِّزُهم هناك في دار الجزاء ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ ﴿١٩﴾ لَا یَسۡتَوِیۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۚ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ﴾.
ثالثًا: يدعوهم إلى التفكُّر بعظَمَة هذا القرآن وما يستلزِمُه هذا التفكُّر من تحصيلِ الخشية والخوفِ من الله ﴿لَوۡ أَنزَلۡنَا هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلࣲ لَّرَأَیۡتَهُۥ خَـٰشِعࣰا مُّتَصَدِّعࣰا مِّنۡ خَشۡیَةِ ٱللَّهِۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَـٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾.
رابعًا: ثم يَختِم ببيانِ بعضٍ من أسماء الله الحسنى وصفاته العُليا؛ لربط القلوب بالله، وتنبيهها إلى عظمته سبحانه، وعلمه وقدرته، وسعة رحمته حتى تتنوَّر بنوره، وتأنَس بحضوره.


﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسࣱ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدࣲۖ﴾ أي: ولتنظُر كلُّ نفسٍ منكم أيها المؤمنون إلى عملها الذي قدَّمَته لآخرتها، وهذا انتِقالٌ للخِطاب، ومُناسبته أنّ الله تعالى بعد أن امتَنَّ على المؤمنين بجلاء بني النضير ذكَّرَهم بحقِّ الله عليهم أن يتَّقُوه في السرِّ والعَلَن، وأن تتعلَّق قلوبُهم بالآخرة؛ فهي الغايةُ الكبرى التي يعمل لها العاملون، ويتنافس فيها المتنافسون.
﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ﴾ يُحذِّر الله المؤمنين من أن ينسَوا عهدهم مع ربِّهم، فتكون عاقبتهم كعاقبة هؤلاء اليهود؛ إذ كانوا أهل دينٍ وإيمانٍ وكتابٍ، لكنّهم نسُوا عهدهم هذا وما فضَّلَهم الله به، فأوكَلَهم الله إلى أنفسهم واستبدَلَ غيرهم بهم.
﴿لَا یَسۡتَوِیۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۚ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ﴾ جاءت هذه الآية في سياق المُقارنة بين الذين نكثوا عهد الله، ونقضوا ميثاقه وهم اليهود ومن شاكلهم من أهل الكتاب والمنافقين، وبين المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم من هذه الأمة الثابِتِين على العهد والحافظين لحدود لله، وفي الآية ترغيبٌ للمؤمنين أن يستقيموا على ذلك، وألا ينحرفوا كما انحرف أولئك الخاسرون.
﴿لَوۡ أَنزَلۡنَا هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلࣲ لَّرَأَیۡتَهُۥ خَـٰشِعࣰا مُّتَصَدِّعࣰا مِّنۡ خَشۡیَةِ ٱللَّهِۚ﴾ هذا مَثلٌ قُصِد به التشنيع على أولئك الكاذبين المُكذِّبين بالقرآن، الصادِّين عنه والغافِلِين عمّا فيه من الهدى والنور، والوعد والوعيد، يقول لهم أنّه لو خُوطِبَ الجبل - وهو مضرِب المثل بالقوة والتماسُك - بهذا القرآن، وهذا هو معنى افتِراضِ إنزال القرآن عليه، أي: افتِراض تكليفه بحمل هذا القرآن والعمل به، فلو كان أهلًا للتكليف ووَعَى طبيعةَ هذه الأمانة، لأحسّ بثقلها ورأيته خائفًا من التقصير بحقِّها، مُتشقِّقًا مصدومًا من هول ما كُلِّف به.
وقد أشار القرآن إلى أن المغزى من هذا إنّما هو التمثيل لتقريب عظمة القرآن، وثِقَل الأمانة التي ينبغي أن يستشعرها هذا الإنسان ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَـٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ ﮤ﴾ بدأ بذِكْرِ اسم الله العَلَم، الذي هو الجامع لكلِّ أسمائه وصفاته ـ؛ فما من اسم إلّا وله معنًى مُشتق عن صفةٍ من صفاته تعالى إلّا هذا الاسم (الله) الذي هو عَلَمٌ على الذات الإلهيَّة، لا يحمل صفةً معيّنةً، بل يحمل الصفات كلّها، ثم ثنَّى بالوحدانيَّة؛ لأنّها أساس الدين كلّه.
﴿عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۖ﴾ أي: يعلَم ما يغيب عنكم أيُّها الناس من العوالم الغيبيَّة؛ كالملائكة والجنِّ، والسماوات السبع وما فيهنّ وما فوقهنّ، ويعلم مستقبل الحياة مِن آجالكم وما ينتظر كلّ واحدٍ منكم، وأحوال الآخرة، ثم هو أيضًا يعلَم ما تشاهدونه ويقع تحت إدراككم وحواسِّكم واستنتاجاتكم، وأعمالكم وأقوالكم.
ولا شكّ أنّ هذه المعاني تترك في نفس المؤمن حِسًّا عظيمًا من الرقابة الذاتيَّة، وثقةً لا حدود لها بأحكام الله وتشريعاته؛ إذ لا يمكن أن يعتَرِيها نقصٌ، أو ميلٌ، أو خللٌ، وتبعث طمأنينة بعدل الله الذي يعلَم كلَّ عاملٍ وما عمل، وتوكُّلًا جميلًا؛ لأنّه تعالى يرى عبده، وهو أعلم بحاجته وشكواه، وما يحيط به.
﴿هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ﴾ تكرار صفة الرحمة بهذَين الاسمَين المباركَين واقتِرانهما ببعضهما يُوحي بالأُنس والطمأنينة؛ فالله الذي يعلَمُنا ويعلَمُ كلّ أحوالنا لا يعلَمُ ذلك علمًا مُجرَّدا، بل هو عِلمٌ ممزوجٌ بالرحمة، الرحمة التي لا حدود لها.
﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ إعادةٌ وتأكيدٌ لاستحضار كلّ أسماء الله وصفاته في اسمه الجامع (الله)، ولاستحضار كلّ معاني الإيمان والإسلام في التوحيد الذي هو أساس الدين.
﴿ٱلۡمَلِكُ﴾ اسمٌ من أسمائه تعالى، بمعنى أنّه سبحانه له السلطان المطلق على هذا الوجود، وكلّ مُلكٍ أو سلطانٍ آخر إنّما هو على سبيل التخويل والاستخلاف والاختبار.
﴿ٱلۡقُدُّوسُ﴾ المُنزَّه ـ تنزيهًا تامًّا عن كلِّ صفةٍ لا تَلِيقُ به، واقتِرانُ هذا الاسم الشريف بالاسم الذي قبلَه إشارةٌ إلى تنزُّه الله عن الصِّفات التي تشِينُ ملوكَ الأرض في العادة؛ من الظلم، وقلَّة الاكتِراث بأحوال العباد وحاجاتهم ومصائرهم.
﴿ٱلسَّلَـٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ﴾ صفتان لله تعالى واسمان من أسمائه الشريفة تُوحِيَان بأنّ الله تعالى هو مصدر السلام، ومصدر الأمن والطمأنينة في هذا الكون بما أودَعَه فيه من نظامٍ، وما أقامَه فيه من سُننٍ ونواميس، فكلّ الكون يجري بنظامٍ وأمانٍ، وبنسقٍ يضمن الهدوء والاستقرار، ولو اهتدى هذا الإنسان في مجاله التكليفي إلى شريعة الله لوجدها متناغمة ومنسجمة مع نظام الله الذي يضبط حركة هذا الكون من مجرَّاته وأفلاكه إلى نطفة الحياة، وبذرة النبات، وقطرة الماء، ونسمة الهواء، ورحيق النحل، وعبير الورد، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
﴿ٱلۡمُهَیۡمِنُ﴾ أي: الحافظ الرقيب المقتدر الذي تخضع له كلُّ ذرَّات هذا الوجود؛ فهو القائم سبحانه على شؤون خلقه، فلا يغيب عن علمه منها شيءٌ، ولا يخرج عن سلطانه منها شيءٌ.
﴿ٱلۡعَزِیزُ﴾ الذي له العزَّة سبحانه فلا يغلِبه أحدٌ، ولا يحول بينه وبين ما يريد أحدٌ.
﴿ٱلۡجَبَّارُ﴾ المقتدر على خلقه فلا يخرج أحدٌ منهم عن إرادته، فكلّ الملوك وجبابرة الأرض - فضلًا عن غيرهم - محكومون بحُكمه، خاضِعون لجبروته، من لحظة تكوينهم في بطون أمهاتهم، إلى لحظة خروجهم من هذه الحياة مجرَّدين عن كلّ شيءٍ، وأمّا ما يملكونه في أيّام حياتهم فما هو إلا متاعٌ زائلٌ قُصِد به اختبارهم، ثم مجازاتهم على أعمالهم.
﴿ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ﴾ الذي له الكبرياء، بمعنى الجلال والعظمة المطلقة، فليس مِن عظيم إلّا وهو ذليلٌ أمام عظمته، وليس مِن موجودٍ إلَّا وهو مخلوقٌ بإرادته، ومُنصاعٌ لنواميسه الحاكمة وسُننه.
﴿سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ فيه التشنيع الشديد على من يقرِن الله بأحدٍ من خلقه؛ فكلّ هؤلاء المعبودون من دونه ليسوا سوى خلق من خلقه، وعبيد من عبيده.
﴿هُوَ ٱللَّهُ﴾ تأكيد أنّ اسمه الشريف هذا هو الأصل لكلّ الأسماء، والجامع لكلّ الصفات.
﴿ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ﴾ والخالق أي: المُوجِد الذي أوجد كلّ هذه المخلوقات من العدم المحض، ثم بنظام التكاثر والتناسل الذي أودَعَه في هذا الخلق، والبارئ أي: الذي برَأَ كلّ مخلوقٍ بما يميِّزه عن غيره في الأجناس والآحاد، ومن المُفسِّرين مَن يخصُّه في خلق الإنسان خاصَّة، ومنه (البريَّة) أي: الناس، والله أعلم.
وأمّا المصوِّر فهو: الذي أعطى لكلِّ مخلوقٍ شكله وصورته وحجمه ولونه، فهذه ثلاثة أسماء مُتَّصلة في معانيها، مُتسلسلةٍ في ترتيبها يكمِّل بعضها بعضًا، ويعضِّدُ بعضها بعضًا.
﴿لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ أي: له سبحانه الأسماء المعروفة بغاية الحُسن في جمالها وجلالها وكمالها، بألفاظها ومعانيها وآثارها.
ومعلومٌ أنّ هذه السورة قد خصَّها الله بجمع هذه الأسماء الشريفة بتسلسلٍ واحدٍ في خواتيمها، ومعلومٌ أيضًا أنّ هذه ليست كلّ أسمائه تعالى، لكنّها تذكِّر بها جميعًا؛ لوجود الصلة بين كلِّ اسمٍ ذَكَرَتْهُ هذه السورة وبين عددٍ من أسمائه تعالى الأخرى؛ فاسمُ الله تعالى (القويّ) مثلًا حاضرٌ في اسمه تعالى (العزيز) واسمه تعالى (الجبار)، وإن لم يُذكَر بلفظه، واسمه تعالى (الرؤوف) حاضرٌ في اسمه تعالى (الرحمن) واسمه (الرحيم)، وكذلك أسماؤه تعالى التي تدلُّ على الوحدانيَّة جمَعَها قولُه تعالى: ﴿لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ﴾، وهكذا.
﴿وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ كرَّر اسمَه تعالى (العزيز) لكنّه قرَنَه هذه المرّة باسمه (الحكيم)، بإشارةٍ أنّ صفتَي العزة والحكمة تتكاملان، والمؤمن الذي يسعى إلى أن يتخلَّقَ بأسمائه تعالى عليه أن يُراعِي هذا التوازُن؛ فعِزَّة الإنسان من غير حِكمةٍ قد تنقَلِبُ إلى غُرورٍ وتهوُّرٍ، وحكمته من غير عِزَّةٍ قد تنقَلِبُ إلى ضعفٍ وذلَّةٍ، وهكذا ينبغي مُراعاة التوازن في كلِّ أسمائه تعالى، بمعنى مُراعاة انعكاسها وتأثيرها في حياة المسلم، فلا يطغى معنًى على معنًى، ولا جانبٌ على جانبٍ.