سورة الأنعام تفسير مجالس النور الآية 124

وَإِذَا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَةࣱ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَیۡثُ یَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَیُصِیبُ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابࣱ شَدِیدُۢ بِمَا كَانُواْ یَمۡكُرُونَ ﴿١٢٤﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنعام

المجلس التاسع والخمسون: طرقُ الغِواية والضلال


من الآية (108- 127)


بعد بيان القرآن لصلة الوحي بالحياة، وحاجة البشرية إلى الهداية الربانيَّة، صار من المناسب ذكر الأسباب التي دفعت بكثيرٍ من البشر إلى المروق عن جادَّة الوحي هذه، وعن طريق السعادة الدائمة في حياتَي الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
أولًا: الجهل، وهو عدوُّ الإنسان الأول، وهو أساس كلِّ غوايةٍ وشرٍّ ﴿مَّا كَانُواْ لِیُؤۡمِنُوۤاْ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَجۡهَلُونَ﴾، ﴿إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا یَخۡرُصُونَ﴾.
ثانيًا: الطغيان، وهو حالةٌ نفسيّةٌ مرضيّةٌ تدفع بالإنسان إلى أن يتعالى ويتكبر على الحقِّ حتى لو كان فيه منفَعَته، كتكبُّر المريض على الدواء، ومُعاداته للطبيبِ الحريصِ على شفائه، ﴿وَنَذَرُهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِینَ﴾، ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ جَعَلۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجۡرِمِیهَا لِیَمۡكُرُواْ فِیهَاۖ﴾، ﴿سَیُصِیبُ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ ﴾.
ثالثًا: العناد، وهو قرينُ الطغيان، فقد يتبنَّى المرءُ فكرةً ما، فإذا تبيَّن له أن الحقَّ بخلافها صعب عليه التراجع، وغالبًا ما يكون هذا في الذين يظنون بأنفسهم العلم ﴿۞ وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ كُلَّ شَیۡءࣲ قُبُلࣰا مَّا كَانُواْ لِیُؤۡمِنُوۤاْ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ﴾.
رابعًا: الهوى، واتباع المصالح الشخصيَّة والفئويَّة القاصرة ﴿وَإِنَّ كَثِیرࣰا لَّیُضِلُّونَ بِأَهۡوَاۤىِٕهِم﴾.
خامسًا: الكذب، وهو عامٌّ في تزييف الحقائق، وتحريف الكتاب، والبُعد عن طريق الصدق والأمانة العلميَّة في البحث والحوار ﴿یُوحِی بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضࣲ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورࣰاۚ﴾، ﴿فَذَرۡهُمۡ وَمَا یَفۡتَرُونَ﴾.
سادسًا: تزيين الباطل ﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾، ﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ زَیَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ﴾ ونسبة التزيين إلى الله هو نسبةٌ إلى الأسباب التي أودعها الله في هذا الكون، والتي هي بمتناول البشر، إن شاءوا أخذوا بأسباب السعادة، وإن شاءوا أخذوا بأسباب الهلاك، فالله خالق كلِّ شيءٍ، والإنسان يميِّز ويختار، وهو يتحمل مسؤوليَّة اختياره.
سابعًا: تعاوُن أهل الباطل في باطلهم ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوࣰّا شَیَـٰطِینَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ یُوحِی بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضࣲ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورࣰاۚ﴾، ﴿ وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ﴾ .
ثامنًا: اتباع الأكثريَّة وغوغائيَّة الجماهير التائهة دون تبصُّر ولا دراية ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ یُضِلُّوكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ﴾، ﴿وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَجۡهَلُونَ﴾، ﴿وَإِنَّ كَثِیرࣰا لَّیُضِلُّونَ بِأَهۡوَاۤىِٕهِم﴾.
ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن في هذا تزكية لما عليه الأقلية؛ إذ لو كان كذلك للزم اتباع الأقليَّة في كلِّ خلاف، وإنما يجري التنبيه على الأكثريَّة؛ لأنه المعتاد في السلوك البشري أن يتأثَّر الناس بالرأي العام، والعرف السائد.
والقرآن يُرشِدنا إلى أن المعرفة الصحيحة إنما تكون بالحجة والدليل لا بأقليَّة ولا بأكثريَّة، أما تعبير الناس عن رغباتهم ومطالبهم في دائرة الخيارات المشروعة، فلا شك أن حكم الأغلبيَّة راجِح، والله أعلم.
تاسعًا: الذنوب، فكلما انغمس المرء في مخالفاته وشهواته كان أبعَد عن طريق المعرفة، فإن العلم نورٌ، والذنوب تحجب القلب عن هذا النور، كما قالوا: ونورُ الله لا يُؤتَى لعَاصٍ؛ ولذا جاء التذكير هنا: ﴿وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥۤۚ ﴾، ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقࣱۗ﴾.
فهذه الذنوب تُورِثُ القسوةَ، وتتلبَّد على القلوب فتمنعها من النظرة الصحيحة السليمة ﴿فَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یَهۡدِیَهُۥ یَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِۖ وَمَن یُرِدۡ أَن یُضِلَّهُۥ یَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَیِّقًا حَرَجࣰا كَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی ٱلسَّمَاۤءِۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾.


﴿وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَیَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَیۡرِ عِلۡمࣲۗ ﴾ النهي عن سبِّ الأصنام والآلهة المزيَّفة؛ كي لا تكون سببًا في استفزاز مُتَّبِعيها على مسبَّة الله، وفي هذا عدوان على الذات الإلهيَّة سببه الأول سوء تصرُّف المسلم مع الآخرين.
وفيه إبعاد لأولئك عن السماع لقول الحقِّ من حيث نحن مكلَّفُون بدعوتهم وهدايتهم.
وفيه منهجيَّة البحث عن مآلات الأقوال والتصرُّفات وإن كانت في ذاتها مشروعة.
﴿وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَـٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ یُؤۡمِنُواْ بِهِۦۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲ﴾ إشارةٌ إلى أن الذنب الأول يقودُ إلى الذنب الثاني، وأن الذي اعتاد التكبُّر عن الحقِّ سيتكبَّر عنه في كلِّ مرَّة، وأن علامة الخير وحسن الخاتمة اتباع العلم والهدى بلا عنادٍ ولا تكبُّر، فهذا دليل الصدق مع النفس، وهو أساس الهداية.
وتقليب الأفئدة والأبصار معناه: الشعور بالاضطراب والتردُّد بين قبول الحقِّ الذي يراه وبين دواعي النفس الداخلية في الصدود والمكابرة والمعاندة.
﴿فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ العَمَه هو الضلال والحيرة والتخبُّط، كالأعمى الذي لا يجِد دليلًا، ولا يهتدي سبيلًا، والصلة بين الطغيان والعَمَه صلة سببية، فالطغيان أصل التِّيه والضلال، بخلاف التواضع الذي هو أصلٌ في كلِّ خير.
﴿ وَحَشَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ كُلَّ شَیۡءࣲ قُبُلࣰا﴾ أي: لو جاءتهم كلُّ الآيات، ولو أتيناهم بكلِّ الخلق ليشهدوا لهم بالحقِّ لما اتبعوا الحقَّ؛ ذاك لأن هؤلاء لا تنقصهم المعرفة، بل هم طغاة معاندون متكبرون.
﴿شَیَـٰطِینَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ﴾ دليلٌ أن الشيطان وصفٌ يدخل في كلِّ جنسٍ، فما خبُث من جنٍ وإنس وحيوان فهو شيطان، وتفسيره بحسب السياق، ومن هذا القَبيل وصف الكلب الأسود بأنه شيطان، فهو بهذا المعنى لا أنه مختلف عن جنس الكلاب، بدليل أنه لو ولَغَ في الإناء فطهوره الماء والتراب كسائر الكلاب.
﴿وَلِتَصۡغَىٰۤ إِلَیۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأَخِرَةِ ﴾ أي: تميل هذه الأفئدة إلى وحي الشياطين؛ لأنها مغلَّفة بشهوات الدنيا، فلا ترى أبعَد من هذه الشهوات، أما التفكير بالحياة وما قبلها وما بعدها فهذا شأنُ القلوب الحيَّة، والعقول المتحرِّرة من هذه القيود.
﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقࣰا وَعَدۡلࣰاۚ﴾ صدقٌ في الخبر، وعدلٌ في الحكم، وهذه ميزة الوحي عن تصورات البشر وقوانينهم، فالبشر يظنُّون ويخرصون، وقد يتعمَّدون الكذب دفعًا لضررٍ، أو جلبًا لنفعٍ، والبشر يظلمون لهذه الأسباب أيضًا، فما الذي يدفع الوحيَ إلى مثل هذا السلوك، وهو من الله العليم بكلِّ شيء، والغني عن كلِّ شيء؟!
وهذه الحقيقة الكبيرة جاءت تفسيرًا وتدليلًا لفحوَى السؤال الاستنكاري المتقدم: ﴿أَفَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِی حَكَمࣰا﴾.
﴿ یَخۡرُصُونَ ﴾ الخرص هو الحزر والتخمين بلا بينةٍ ولا دليلٍ.
﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ﴾ من الذبائح التي لم تقدَّم للأصنام، وكذا المحرَّمات التي ليست على هَدي الله كالدم والميتة والخنزير، ثم استثنى منها: ﴿إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَیۡهِۗ﴾ لحفظ الحياة؛ لأن مفسَدة تناول المحرمات أقلُّ في ميزان الله من هلاك النفس بسبب الجوع أو الظمأ.
﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَیۡكُمۡ﴾ إشارة أن مساحة العفو المباح هي الأصل، فما لم يفصَّل في ديوان المحرَّمات فهو مباحٌ، ورد به دليل معيَّن أو لم يَرِد.
﴿وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥۤۚ﴾ إثم الظاهر ما يراه الناس ويطَّلِعون عليه، وهذا النوع فيه العدوان على حُرمات الله وعلى مشاعر المسلمين، أما الإثم الثاني فهو الذي يُخفِيه المذنب عن الناس حياءً منهم، أو طمعًا في الوجاهة بين المسلمين، وهذا الإثم إن كان لضعفٍ في الإرادة وقلَّةٍ في العزم فهو أهوَن من الأول؛ لأن المجاهَرة دليل الوقاحة، وقلة الحياء، أما إن كان مَكْرًا ونفاقًا وكيدًا بالمسلمين فهذا أخطر من الأول، والله أعلم.
﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقࣱۗ وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ﴾ فيه التفريق بين المعصية التي مؤدَّاها الفِسْق، وبين طاعة الطاغوت التي مؤدَّاها الشرك، فالواقع في الإثم مع استِشعاره الإثم لا يخرج من الدين، لكن من فَضَّل قانون البشر على قانون الله رغبةً وقناعةً وطاعةً فهذا مُخرِجٌ من الدين بلا ريب، فمن أكل الربا مثلًا حُبًّا في المال فهو فاسقٌ آثم، بخلاف ذاك الذي يدافع عن الربا ويستنكر تحريمه مع علمه بقطعيَّة التحريم، فهو كافرٌ خارجٌ من الدين.
﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَیۡثُ یَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ﴾ فاختيارُ الرسل إنما يكون بعلم الله وحكمته، لا على مقاييس البشر وتصوراتهم.
﴿سَیُصِیبُ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ﴾ هو الذلة والمهانة التي تناسب طيشَهم وغرورَهم وتكبُّرَهم.
﴿ضَیِّقًا حَرَجࣰا كَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی ٱلسَّمَاۤءِۚ ﴾ فالذي يحاول الصعود على الشواهق يشعر بالخوف والقلق وضيق النفَس، وهو تشبيهٌ لحال المتكبِّر المتعالي على الحقِّ، فهو يشعر بالضيق والحرج عند سماعه للحقِّ والحجة والبرهان.
وقد أثبَتَ العلمُ الحديثُ أن الصاعد في طبقات الفضاء بطائرة أو مركبة يختَلُّ عنده الضغط الجوي، فيشعر بضيقٍ في الصدر، وصعوبةٍ في التنفس.
﴿وَهَـٰذَا صِرَ ٰ⁠طُ رَبِّكَ مُسۡتَقِیمࣰاۗ﴾ تأكيدٌ للصراط المستقيم الذي هو طريق الذين أنعم الله عليهم من المؤمنين الصادقين، غير المغضوب عليهم بسبب عنادهم وكبرهم، أو الضالين بسبب جهلهم وتقصيرهم في طلب العلم، وهذا الصراط المستقيم هو الموصل إلى السعادة الأبدية ﴿۞ لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ ﴾.