في خواتيم هذه السورة جاءت التوجيهات الربانيَّة لتلخِّص الصورة التي ينبغي أن تكون عليها الأمة المسلمة مُستهديةً بالوحي، ومستفيدةً من تجارب الأسبَقِين، وقد تصدَّرت هذه التوجيهات عشر وصايا وهي:
أولًا:
﴿أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ﴾ التوحيد.
ثانيًا:
﴿وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰاۖ ﴾ بر الوالدين.
ثالثًا:
﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَوۡلَـٰدَكُم ﴾ الحفاظ على حياة الأولاد.
رابعًا:
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَ ٰحِشَ﴾ النهي عن الزنا ومقدماته.
خامسًا:
﴿ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ﴾ الحفاظ على حياة الناس.
سادسًا:
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ ﴾ الحفاظ على أموال اليتامى.
سابعًا:
﴿وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ ﴾ العدل وحفظ أموال الناس وحقوقهم.
ثامنًا:
﴿ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ﴾ أمانة القول وعدالة الحكم والشهادة.
تاسعًا:
﴿وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ﴾ الوفاء بالعهد.
عاشرًا:
﴿وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیمࣰا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَـتَّـبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ﴾ الوحدة والثبات على الطريق المستقيم.
وجاءت تسميتها بالوصايا لتكرار كلمة:
﴿ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ﴾ مما يشعر بأهميتها وخطورتها في حياة المسلمين.
ومما يُثار هنا مدى صلة هذه الوصايا بالوصايا التوراتيَّة العشر المقدَّسة عند اليهود إلى اليوم، وبنظرة علميَّة موضوعيَّة يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولًا: هناك تشابهٌ وتقاربٌ كبير بين المنظومَتَين، فكلاهما تركزان على التوحيد والأخلاق وبر الوالدين، والعدل والحفاظ على حقوق الناس وأموالهم.
ثانيًا: لا مانع أن تكون هذه الوصايا مما بقِيَ على حاله في التوراة دون تحريف، فنورُ الوحي فيها ظاهر، واتِّساقها مع وصايا القرآن شاهِدٌ على ذلك.
ثالثًا: التشابه بين الكتب السماويَّة أصلٌ بحكم وحدانيَّة مصدرها
﴿۞ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ﴾ [الشورى: 13]، وهذه الوصايا مثالٌ واضح لتجسيد هذه الحقيقة.
رابعًا: إن سورة
الأنعام نفسها قد عقَّبَت مباشرةً بعد سرد الوصايا العشر بالقول:
﴿ثُمَّ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِیلࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لَّعَلَّهُم بِلِقَاۤءِ رَبِّهِمۡ یُؤۡمِنُونَ ﴾ ثم وصَفَت القرآن بهذه الأوصاف أيضًا
﴿فَقَدۡ جَاۤءَكُم بَیِّنَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱۚ﴾ وفي هذا إشارات لا تخفى عن مدى التشابه بين الكتابَين بشكلٍ عام، وفي هذه الوصايا بالذات بدلالة السياق، والله أعلم.
بعد هذه الوصايا العشر جاء التأكيد لعددٍ من الحقائق الإيمانيَّة والتاريخيَّة والتي تتَّجِهُ كلُّها لبناء شخصية الأمة وتمييز هويتها:
أولًا: إن البشر كلهم سائِرُون إلى مصيرهم المحتوم، فالدنيا إلى زوال، وهناك يفوز المؤمنون بإيمانهم، ويبُوءُ الكافرون بعاقِبَةِ كفرهم وظلمهم
﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَۗ یَوۡمَ یَأۡتِی بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَ لَا یَنفَعُ نَفۡسًا إِیمَـٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرࣰاۗ ﴾.
ثانيًا: إن دين الله واحد في أصله وجوهره وغايته، وإنما جاءت التفرِقَة بالتحريف والتحزُّبِ واتِّباع الهوى
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ فَرَّقُواْ دِینَهُمۡ وَكَانُواْ شِیَعࣰا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِی شَیۡءٍۚ ﴾،
﴿قُلۡ إِنَّنِی هَدَىٰنِی رَبِّیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ دِینࣰا قِیَمࣰا مِّلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾.
ثالثًا: إن ميزانَ الحساب واحدٌ بين جميع البشر: العدل والفضل
﴿مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَاۤءَ بِٱلسَّیِّئَةِ فَلَا یُجۡزَىٰۤ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾،
﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾.
رابعًا: إن التفاوت في الرزق وغيره على هذه الأرض لا ينافي العدل؛ لأن هذه الأرض دار اختبارٍ لا دار جزاءٍ، والله يبلُو هذا بذاك وذاك بهذا، الغني بالفقير، والفقير بالغني، والقوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، وهكذا
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ ﴾.
خامسًا: إن المسلم موصول بالله في كلِّ حركاته وسكناته، وخلواته وجلواته
﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﯜلَا شَرِیكَ لَهُۥ ۖ﴾.
سادسًا: إن التوحيد هو أساس الدين، وأساس كلِّ خيرٍ، وهو الذي يحقق الانسجام بين الإنسان وفطرته من الداخل، وبينه وبين هذا الكون الفسيح أيضًا
﴿قُلۡ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِی رَبࣰّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَیۡءࣲۚ ﴾.