سورة الأنعام تفسير مجالس النور الآية 162

قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١٦٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنعام

المجلس الثاني والستون: وصايا عشرٌ وتوجيهات ختامية


من الآية (151- 165)


في خواتيم هذه السورة جاءت التوجيهات الربانيَّة لتلخِّص الصورة التي ينبغي أن تكون عليها الأمة المسلمة مُستهديةً بالوحي، ومستفيدةً من تجارب الأسبَقِين، وقد تصدَّرت هذه التوجيهات عشر وصايا وهي:
أولًا: ﴿أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ﴾ التوحيد.
ثانيًا: ﴿وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰاۖ ﴾ بر الوالدين.
ثالثًا: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَوۡلَـٰدَكُم ﴾ الحفاظ على حياة الأولاد.
رابعًا: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ﴾ النهي عن الزنا ومقدماته.
خامسًا: ﴿ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ﴾ الحفاظ على حياة الناس.
سادسًا: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ ﴾ الحفاظ على أموال اليتامى.
سابعًا: ﴿وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ ﴾ العدل وحفظ أموال الناس وحقوقهم.
ثامنًا: ﴿ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ﴾ أمانة القول وعدالة الحكم والشهادة.
تاسعًا: ﴿وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ﴾ الوفاء بالعهد.
عاشرًا: ﴿وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰ⁠طِی مُسۡتَقِیمࣰا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَـتَّـبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ﴾ الوحدة والثبات على الطريق المستقيم.
وجاءت تسميتها بالوصايا لتكرار كلمة: ﴿ذَ ٰ⁠لِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ﴾ مما يشعر بأهميتها وخطورتها في حياة المسلمين.
ومما يُثار هنا مدى صلة هذه الوصايا بالوصايا التوراتيَّة العشر المقدَّسة عند اليهود إلى اليوم، وبنظرة علميَّة موضوعيَّة يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولًا: هناك تشابهٌ وتقاربٌ كبير بين المنظومَتَين، فكلاهما تركزان على التوحيد والأخلاق وبر الوالدين، والعدل والحفاظ على حقوق الناس وأموالهم.
ثانيًا: لا مانع أن تكون هذه الوصايا مما بقِيَ على حاله في التوراة دون تحريف، فنورُ الوحي فيها ظاهر، واتِّساقها مع وصايا القرآن شاهِدٌ على ذلك.
ثالثًا: التشابه بين الكتب السماويَّة أصلٌ بحكم وحدانيَّة مصدرها ﴿۞ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ﴾ [الشورى: 13]، وهذه الوصايا مثالٌ واضح لتجسيد هذه الحقيقة.
رابعًا: إن سورة الأنعام نفسها قد عقَّبَت مباشرةً بعد سرد الوصايا العشر بالقول: ﴿ثُمَّ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِیلࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لَّعَلَّهُم بِلِقَاۤءِ رَبِّهِمۡ یُؤۡمِنُونَ ﴾ ثم وصَفَت القرآن بهذه الأوصاف أيضًا ﴿فَقَدۡ جَاۤءَكُم بَیِّنَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱۚ﴾ وفي هذا إشارات لا تخفى عن مدى التشابه بين الكتابَين بشكلٍ عام، وفي هذه الوصايا بالذات بدلالة السياق، والله أعلم.
بعد هذه الوصايا العشر جاء التأكيد لعددٍ من الحقائق الإيمانيَّة والتاريخيَّة والتي تتَّجِهُ كلُّها لبناء شخصية الأمة وتمييز هويتها:
أولًا: إن البشر كلهم سائِرُون إلى مصيرهم المحتوم، فالدنيا إلى زوال، وهناك يفوز المؤمنون بإيمانهم، ويبُوءُ الكافرون بعاقِبَةِ كفرهم وظلمهم ﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَۗ یَوۡمَ یَأۡتِی بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَ لَا یَنفَعُ نَفۡسًا إِیمَـٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرࣰاۗ ﴾.
ثانيًا: إن دين الله واحد في أصله وجوهره وغايته، وإنما جاءت التفرِقَة بالتحريف والتحزُّبِ واتِّباع الهوى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ فَرَّقُواْ دِینَهُمۡ وَكَانُواْ شِیَعࣰا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِی شَیۡءٍۚ ﴾، ﴿قُلۡ إِنَّنِی هَدَىٰنِی رَبِّیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ دِینࣰا قِیَمࣰا مِّلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ حَنِیفࣰاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾.
ثالثًا: إن ميزانَ الحساب واحدٌ بين جميع البشر: العدل والفضل ﴿مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَاۤءَ بِٱلسَّیِّئَةِ فَلَا یُجۡزَىٰۤ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾، ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾.
رابعًا: إن التفاوت في الرزق وغيره على هذه الأرض لا ينافي العدل؛ لأن هذه الأرض دار اختبارٍ لا دار جزاءٍ، والله يبلُو هذا بذاك وذاك بهذا، الغني بالفقير، والفقير بالغني، والقوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، وهكذا ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ ﴾.
خامسًا: إن المسلم موصول بالله في كلِّ حركاته وسكناته، وخلواته وجلواته ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﯜلَا شَرِیكَ لَهُۥ ۖ﴾.
سادسًا: إن التوحيد هو أساس الدين، وأساس كلِّ خيرٍ، وهو الذي يحقق الانسجام بين الإنسان وفطرته من الداخل، وبينه وبين هذا الكون الفسيح أيضًا ﴿قُلۡ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِی رَبࣰّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَیۡءࣲۚ ﴾.


﴿وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰاۖ﴾ شاملًا لكلِّ معاني البرِّ، من قولٍ وعملٍ ونيَّةٍ ورعايةٍ ومتابعةٍ ومبادرةٍ، مع كامل المودة، وكبير الاحترام.
﴿مِّنۡ إِمۡلَـٰقࣲ﴾ هو الجوع الواقع الذي يجعل بعض النفوس الضعيفة تُضحِّي بأولادها للتخفيف من وطأته وشدته.
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ﴾ القبائح المنكرة، وأكثر استعمال الفاحشة في الزنا، وقال: لا تقرَبُوا؛ تنبيهًا إلى ترك كلِّ ما يُفضي أو يؤدِّي إليه؛ من نظرةٍ، وكلمةٍ، وخلوةٍ، وملامسةٍ، وخضوعٍ في القول أو الفعل.
﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ﴾ كلُّ نفسٍ مؤمنةٍ أو كافرةٍ، فحياة الإنسان مُصانةٌ إلا في ميدان القتال، أو ساحة القضاء، والأول للإمام أو نائبه، والثاني للقاضي بشروطه وأدلته، وهذا كله مفصَّل في مظانِّه من كتب الفقه.
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ أي: ما فيه مصلحة اليتيم من بيعٍ أو شراءٍ أو نفقةٍ، والأصل تحريم التصرُّف فيه، والقُرب منه.
﴿ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ نصٌّ في الأموال المكيلة والموزونة، ويُقاسُ عليها المعدود ونحوه، وإشارة في كلِّ حقٍّ ماديٍّ أو معنويٍّ.
﴿وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ﴾ أصلٌ في الحكم والشهادة، ويقاس عليها كلُّ قولٍ بين اثنين أو رأيَين أو خبَرَين، وهكذا.
﴿وَلَا تَـتَّـبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ﴾ دلالته أن الابتِعاد عن الصراط المستقيم يؤدِّي بالضرورة إلى التفرُّق والاختلاف.
﴿تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ﴾ أي: أنه كتابٌ كامِلُ الهداية يدعو لكلِّ فضيلةٍ وخيرٍ، وينهى عن كلِّ رذيلةٍ وشرٍّ، وهذا الإتمام مناسب للمُحسِنين الراغبين في الهداية، والباحثين عن الحقِّ، فهو كافِيهم هدًى وحكمةً ونورًا في كلِّ ما يحتاجون إليه من عقائد وشرائع.
﴿یَصۡدِفُونَ عَنۡ ءَایَـٰتِنَا﴾ يعرضون عنها.
﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَۗ﴾ إشارةٌ إلى قرب القيامة وشرائطها وأهوالها، وما ينتظر الناس بعدها من حسابٍ وثوابٍ وعقابٍ، وأنَّ ﴿ یَأۡتِیَ رَبُّكَ ﴾ هو خبرٌ حاصل على ما يليق به من غير نقصٍ ولا تشبيهٍ ولا زوالٍ، أما مجيء المخلوق فهو لحاجةٍ؛ إذ لا يمكنه التصرُّف في مكانَين إلا بالانتقال من أحدهما إلى الآخر.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِینَ فَرَّقُواْ دِینَهُمۡ وَكَانُواْ شِیَعࣰا ﴾ تفريق الدين غير الاجتهاد في فهم الدين، فالأول يكون بهدم أصوله وثوابته وأحكامه القطعية؛ وبذلك يتفرَّق الناس على أديان مختلفة ومتناقضة، والثاني يكون بإعمال العقل في استنباط الأحكام الدقيقة والمعاني اللطيفة، فتتعدَّد المدارس والمذاهب في تعدديَّةٍ ثريَّة وحيويَّة، وهذا ما عرَفَتْه الأمةُ أيام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل الفقه والحديث والتفسير واللغة والتاريخ.
﴿ دِینࣰا قِیَمࣰا ﴾ فيه معنى الثبات والاعتدال من القيام اللازم، أو بمعنى القيام بشؤون الناس، والإجابة عن أسئلتهم واحتياجاتهم الدينيَّة تمامًا من غير نقصٍ، وبيانًا من غير إبهامٍ، وكلُّ هذه المعاني صحيحة ويحتملها اللفظ، والله أعلم.
﴿ قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴾ فيه ردٌّ على من فَصَلَ بين شؤون العبادة وأمور الحياة، فالمسلمُ خاضعٌ لله مُتَّصِلٌ به في كلِّ شؤونه الحياتيَّة والدينيَّة، الفرديَّة والجماعيَّة، الدنيويَّة والأُخرويَّة.
﴿ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ ﴾ من هذه الأمة بعد فترة الرسل؛ حيث جاء ليؤسِّس الأمة الجديدة على هذه الأرض، وإن كان امتدادها الديني مُتَّصِلًا بإبراهيم وبنوح وبآدم عليهم السلام.
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ﴾ أي: لا تحمل نفسٌ ذنبَ غيرها، بل كلٌّ يحمل ذنبه.
﴿ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ ﴾ جيلًا بعد جيل.