في خضم الحوار مع المشركين يلتفت القرآن إلى
الصف المؤمن ليمنحه أسباب الثبات والقوة الإيمانيَّة الذاتيَّة التي تستعصِي على التفكك أو الذوبان مهما كان حجم الضغوطات الخارجية، وتتجلَّى هنا معالم التكوين الإيماني كما رسَمَها القرآن:
المَعْلَمُ الأول: وحدة
الصف المؤمن، وعدم التفريط بالمسلم مهما كان حالُه وظرفُه
﴿وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُۥ ۖ ﴾ وقد كان هذا مطلبًا لبعض أسيَاد قريش؛ أن يطرد الرسول
ﷺ أتباعه من الضعفاء والفقراء حتى تكون الأجواء مهيَّأة لدخول أولئك الأسياد!
المَعلَمُ الثاني: أن وحدة
الصف لا تعني ضياع المسؤولية الفردية، فكلُّ فردٍ في هذا
الصف مسؤول مسؤولية تامة عن خياراته وتصرُّفاته، لا يختلط هذا بذاك، ولا ذاك بهذا
﴿ مَا عَلَیۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَیۡءࣲ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَیۡهِم مِّن شَیۡءࣲ﴾،
﴿وَمَا عَلَى ٱلَّذِینَ یَتَّقُونَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَیۡءࣲ وَلَـٰكِن ذِكۡرَىٰ لَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ﴾،
﴿وَذَكِّرۡ بِهِۦۤ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ﴾.
المَعلَمُ الثالث: أن الرحمة هي القيمة العليا التي تنظم العلاقات البينيَّة داخل هذا الصف، في ظلال الرحمة الإلهيَّة الشاملة، والرحمة هنا تكميلٌ لمعنى المسؤولية، فالفرد يتحمَّل مسؤوليته كاملة، هذا من حيث العدل والقانون، فإن احتاج إلى معونة من إخوانه أعانوه إلى حدِّ الإيثار بالمال والنفس، وإن احتاج إلى المراجعة وتصحيح الموقف فباب التوبة مفتوح.
فالمسؤوليَّة ليست جامدة بالقدر الذي يسحَق الفرد تحت سطوته، بل هما قيمتان متناغمتان؛ المسؤوليَّة، والرحمة
﴿وَإِذَا جَاۤءَكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِـَٔایَـٰتِنَا فَقُلۡ سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوۤءَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾.
المَعلَمُ الرابع: العلم بالباطل ونهجه ومبتداه ومنتهاه
﴿وَلِتَسۡتَبِینَ سَبِیلُ ٱلۡمُجۡرِمِینَ ﴾ والسبيل: الطريق من أوله إلى آخره، واستبانته للمؤمنين شرط في تكوينهم الإيماني؛ لئلَّا يختلط الحقُّ بالباطل، وطريق الجنة بطريق النار؛ ولذلك قال بعده:
﴿قُل لَّاۤ أَتَّبِعُ أَهۡوَاۤءَكُمۡ قَدۡ ضَلَلۡتُ إِذࣰا وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِینَ ﴾.
المَعلَمُ الخامس: العلم بطريق الحقِّ
﴿قُلۡ إِنِّی عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی﴾ وبالتالي فكلُّ من سلَكَ الطريق بلا بينة ولا علم يُخشَى عليه الضلال والتوَهَان في مسارات الباطل.
المَعلَمُ السادس: تنمية الرقابة الذاتيَّة من خلال اليقين بعلم الله المحيط بكل شيء
﴿ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا یَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةࣲ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبࣲ وَلَا یَابِسٍ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ﴾ ومع الرقابة والمحاسبة الذاتيَّة هناك شعورٌ بالطمأنينة والثقة، فليس هنا في هذا العالم مجال للعبث، أو النسيان، أو العشوائية حتى ورقة الشجر الذابِلَة الساقطة! ومن باب أَولَى سلوك هذا الإنسان المكلَّف بعمارة الأرض
﴿وَیَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ﴾.
المَعلَمُ السابع: عقيدة الجزاء الأخروي الدافعة لفعل الخير وتجنُّب الشرِّ
﴿ لِیُقۡضَىٰۤ أَجَلࣱ مُّسَمࣰّىۖ ثُمَّ إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ یُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٦٠﴾ وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَیُرۡسِلُ عَلَیۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا یُفَرِّطُونَ ﴿٦١﴾ ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَهُوَ أَسۡرَعُ ٱلۡحَـٰسِبِینَ ﴾،
﴿ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَیۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣱّ وَلَا شَفِیعࣱ وَإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلࣲ لَّا یُؤۡخَذۡ مِنۡهَاۤۗ﴾.
المَعلَمُ الثامن: الإعراض عن مجالس الإثم واللغو الباطل؛ صيانةً للنفس، وحمايةً للمجتمع
﴿وَإِذَا رَأَیۡتَ ٱلَّذِینَ یَخُوضُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُواْ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِۦۚ وَإِمَّا یُنسِیَنَّكَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾.
المَعلَمُ التاسع: العمل على الدعوة والإصلاح وإنقاذ الناس، وهذا المعلم مكمِّلٌ لما قبله حتى لا يكون الإعراض إعراضًا سلبيًّا
﴿كَٱلَّذِی ٱسۡتَهۡوَتۡهُ ٱلشَّیَـٰطِینُ فِی ٱلۡأَرۡضِ حَیۡرَانَ لَهُۥۤ أَصۡحَـٰبࣱ یَدۡعُونَهُۥۤ إِلَى ٱلۡهُدَى ٱئۡتِنَاۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۖ﴾.
المَعلَمُ العاشر: التذكيرُ بالأصل الكلِّي الذي قام عليه هذا الدين، واجتمع عليه هذا الصف، ألا وهو التوحيد
﴿قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُنَا وَلَا یَضُرُّنَا﴾،
﴿قُلۡ مَن یُنَجِّیكُم مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةࣰ لَّىِٕنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ ﴿٦٣﴾قُلِ ٱللَّهُ یُنَجِّیكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبࣲ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ﴾،
﴿ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۖ وَأُمِرۡنَا لِنُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٧١﴾ وَأَنۡ أَقِیمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّقُوهُۚ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ ﴿٧٢﴾ وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ ۖ وَیَوۡمَ یَقُولُ كُن فَیَكُونُۚ﴾.