سورة الصف تفسير مجالس النور الآية 2

یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الصف

المجلس الخامس والخمسون بعد المائتين: والله مُتم نوره ولو كره الكافرون


سورة الصف


نورُ الله الذي أوحاه إلى الأنبياء السابقين، ثم أتمَّهُ بمحمدٍ عليه وعليهم الصلاة والسلام، قَبِلَه مَن قَبِلَه، ورفَضَه مَن رفَضَه، والصراعُ بين النور والظُّلمة مُحتدِمٌ ما بقِيَ الليل والنهار.
وقد جاءت هذه السورة لتضَع معالم من مسيرة النور، ووعَدَ الله بإتمامه، ومسؤوليَّة أهل الإيمان في نُصرته وتبليغه للناس كافَّة، وكما يأتي:
أولًا: استهلَّت السورة بتسبيح الله تعالى وتمجيده تعالى لنفسه بذِكر الصفتين الجليلَتَين لله: العزّة والحكمة، وهما صفتان تكرَّرتا مقرونتَين كثيرًا في القرآن الكريم، وتكرَّرَتا في هذا الجزء تكرارًا بيِّنًا، وهو الجزء الذي يُعالِجُ في الغالب مسائِلَ الصراع بين الحقِّ والباطِلِ.
ثانيًا: حثَّت السورةُ المُؤمنين على الوفاء ببَيعَتِهم لله ولرسوله، وإتْبَاعِ القولِ بالعمل ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴿١﴾ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾.
ثالثًا: حثَّت السورةُ المؤمنين على أن يكونوا صفًّا واحدًا مُوحَّدًا مُتماسِكًا تماسُك البُنيَان المرصُوص في مُواجهة المُعتَدين ومكائِدهم ومُخطَّطاتهم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ﴾.
رابعًا: ذَكَّرَ القرآن بموقف موسى عليه السلام من قومه الذين آذَوه مع عِلمهم بنبوَّتِهِ وصِدْقِ رسالته ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ وفي الآية تحذيرٌ للمسلمين أن يؤذوا رسول الله ولو عن غير قصدٍ؛ فمقامه أَولَى بأن يحتاط فيه المسلم ولو بمستوى الصوت وطريقة المناداة أو المناجاة.
خامسًا: ذَكَّرت السورة أيضًا برسالة عيسى عليه السلام والتي جاءت مُصدِّقةً بالرسالة التي قبلها، وهي التوراة، ومبشِّرةً ببعثة النبيِّ الخاتم سيدنا محمدٍ ﴿وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾.
سادسًا: ندَّدَت السورة بأولئك الكاذبين المُكذِّبين المُعاندين لأنبياء الله، والباذِلين كلّ جهدهم لإطفاء نور الوحي، وطمس الرسالات السماويَّة ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُوَ یُدۡعَىٰۤ إِلَى ٱلۡإِسۡلَـٰمِۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴿٧﴾ یُرِیدُونَ لِیُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾.
سابعًا: أكَّدَت السورة وعد الله الحقّ بالتمكين لهذا الدين، ونشر نور الله في الأرض ولو كره الكافرون ﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾.
ثامنًا: عادَت السورة لتحثّ المؤمنين على الصبر والمُصابرة والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، مع وعْدهم بالحسنيَين: نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ في الدنيا، ونعيمٌ خالدٌ وسعادةٌ أبديَّةٌ في الآخرة ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَـٰرَةࣲ تُنجِیكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ ﴿١٠﴾ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَ ٰ⁠لِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ﴿١١﴾ یَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَیُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ ﴿١٢﴾ وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحࣱ قَرِیبࣱۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾.
تاسعًا: ذكَّرَت السورة أصحابَ محمدٍ بحواريِّي عيسى عليه السلام في انتِصارهم للحقِّ والْتِفافهم حول نبيِّهم، حتى أيَّدَهم الله على عدوِّهم، وهذا تنبيهٌ تربويٌّ، وتعليمٌ بالنموذج والمثال ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ لِلۡحَوَارِیِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱلـلَّــهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱلـلَّــهِۖ فَـَٔامَنَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ وَكَفَرَت طَّاۤىِٕفَةࣱۖ فَأَیَّدۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَـٰهِرِینَ﴾.


﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ أي: نزَّهَهُ عن كلِّ صِفةٍ لا تَلِيقُ به.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ نزَلَت في مَن كان يسأل عن الجهاد ويتشوَّق له فلَّما فُرِضَ تقاعَس، كما حصل في يوم أُحُدٍ، والثلاثة الذين خُلِّفوا وغيرهم؛ فالفارق بين ما يتمنَّاه المرء ويرغب به وبين تلبُّسِه به يجِده غالِبُ الناس في كثيرٍ مما يتمنَّونه؛ ذلك لأنّ التمني يستحضِر الصورة المرغوبة والمُجرَّدة عن كدرِها ومشقَّتِها، فإذا جدَّ الأمر قلَّت الرغبةُ لها.
والسياق يُشيرُ إلى أنّ هؤلاء النفر قد اختَلَف حماسُهم في الأقوال والأمنيات عن مستوى رغبتهم في الامتثال اختلافًا يقتضي التنبيه له، ومعالجته بهذه الطريقة الجادّة والحاسمة، خاصَّةً أنّه يتعلَّق بمصير هذه الدعوة ومُستقبلها.
هذا وقد شاعَ عن بعض الوُعَّاظ أنّ الآية تتحدَّث عن الآمِرين بالمعروف والناهِين عن المنكر إذا وقَعُوا في الزلَل، حتى قلَّلوا الرغبةَ عندهم في الإصلاح تحرُّزًا من الوقوع فيما تذمُّه الآية وتوبِّخ عليه، والأمرُ ليس كذلك؛ فالزلل مُتوقَّع من كلِّ أحدٍ، ولو كان الزلل ذريعةً صحيحةً لترك الإصلاح والابتِعاد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسم هذا الباب من أساسه، والصحيحُ أنّ العاقل يستمر بأداء واجب الإصلاح وتغيير المنكر، ويُحاسب نفسه على الزلل، لا أن يستمرَّ على الزلل ويحاسب نفسه على الدعوة والإصلاح.
﴿كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ أي: عظُم عند الله بغضه وكراهيته لأَن يقول الإنسان ما لا يريد فعلَه، وحقيقةُ البغض مُنصبَّةٌ ليس على قول الحقّ، بل على ترك العمل به، فلو كان هؤلاء قد ترَكُوا الجهاد في سبيل الله وترَكُوا التحدُّث به لما نقص مقتُ الله لهم، بمعنى أنّ المقتَ إنّما هو مُنصبٌّ على ترك الجهاد في سبيل الله مع العلم بوجوبه.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ﴾ بمعنى إن كنتم تسألون عن العمل الذي يُحبُّه الله فهذا هو، وتشبيهُ المؤمنين بهذه الصورة فيه أكثر من دلالة؛ منها: وِحْدَةُ الكلمة، ووِحْدَةُ الراية والقيادة، ووجود السمع والطاعة، ووجود التعاون والتكافل، ونحو هذا.
﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ﴾ هذه شكوى موسى عليه السلام من المؤمنين به، وهم بنو إسرائيل؛ إذ كانوا يُؤذُونه ببعض العصيان والمخالفات، ومن ذلك قولهم: ﴿فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ﴾ [المائدة: 24].
والتذكير بشكوى موسى هذه لا تخفى صلته بالسياق؛ فالذين تخلَّفوا عن رسول الله في بعض الغزوات، والأعراب الذين رفَضُوا الخروجَ معه يوم الحديبية، هؤلاء يلحقون الأذى به ، والتذكير بقصة موسى فيه تنبيهٌ لهم، وتسليةٌ له .
﴿فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ﴾ أي: لما تكرَّر منهم العصيان حتى زاغُوا عن الحقِّ، أزاغَ الله قلوبهم عن الأوبة والتوبة، وأشغَلَهم في أنفسهم، وسلَبَهم الخيريَّة التي كانت لهم، والأمانة التي شرَّفهم الله بحملِها ثم أعطاها لغيرهم، وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهذه الأُمَّة إن هي زاغَت عن هَدي نبيِّها، وتخلَّت عن أمانتها.
﴿وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ تأكيدٌ لعدل الله في خلقه؛ فالله لا يضلُّ أحدًا إلَّا وهو مُستحقٌ للضلال، طالبٌ له، حريصٌ عليه.
﴿وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم﴾ لم يقُل لهم كما قال موسى: يا قومي؛ لأنّه لم يكن له أب منهم كما لموسى عليهما السلام، وفيه أنَّ رسالة عيسى رسالة خاصَّة لقومٍ مخصوصين، وهم بنو إسرائيل، وهذا ما تَشْهَدُ به الأناجيل الموجودة اليوم رغم ما اعتراها من تحريفٍ، وإنّما تحوَّلَت إلى العالميَّة على يد بُولس، وفي رسائل بولس تصريحٌ بهذا التحوُّل، وليس هنا محل التفصيل.
﴿وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ﴾ وهذه البِشارة موجودة بمعناها في الأناجيل الموجودة بين أيدينا، ومؤكَّدة في أكثر من موضعٍ، وقد ترجم موضع الاسم المُبشّر به إلى كلمة (المُعزِّي)، أمّا أصلُها عندهم في اللغة القديمة - والتي لا زالت موجودة أيضًا - فهو (الفارقليط).
ومهما اختلف القساوسة في تفسير أصلها أو في ترجمتها؛ فإنَّ هناك معنًى لا ينبغي الخلاف فيه، وهو وجود البِشارة بمَن يأتي بعد عيسى ويبلِّغ الناس الحقّ كلَّه الذي يسمعه من الله، ولا يأتي به من نفسه، وهذا ما تنصُّ عليه بعض الأناجيل.
وفي رؤيا يوحنَّا اللاهوتي المطبوعة في نهاية الإنجيل: أنّ المُبشَّر به صادِقٌ، وأمينٌ، وتُحارِبُ معه ملائكةُ السماء.
والسؤال هنا: مَن هذا الذي تتحدَّث عنه الأناجيل؟ ومتى سيأتي؟ ولماذا لا يُبشِّرُ به القساوِسةُ اليوم؟
أما السِّرُّ في أنه ذَكَرَ اسمَه (أحمد) وليس (محمدًا)، فهذا دليلٌ على صِدقِه فيما يُبلِّغُه عن ربِّه؛ لأنّه يعرِفُ أنَّ اسمَه العَلَم الذي يُنادِيه الناسُ به هو (محمد) وليس (أحمد).
وإنّما سبب الإشكال عند من يراه إشكالًا هو فَهمُ أنَّ اسم (أحمد) هو اسمُ عَلَمٍ، والحقيقةُ أنّه وصفٌ للمُسمَّى، ودلالةُ الاسم على المُسمَّى شائِعٌ في العربية، ومنه قوله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ﴾ أي: واذكر ربَّك، فتكون بِشارة عيسى عليه السلام ببعثة نبيٍّ بعده هو الأكثر حمدًا من غيره، بمعنى الفاعليَّة أي: أكثر الناس حَمدًا لله، أو المفعوليَّة بمعنى أنّه الذي يحمَدُه الناس أكثَرَ مِن غيره، وكلاهما مُتحقِّقٌ في رسولِ الله .
﴿فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ الأوفَق أن يعود الضمير المُقدَّر في ﴿جَاۤءَهُم﴾ إلى الرسول الذي تقدَّمت بِشارة سيدنا عيسى به، وهو محمدٌ ، ومبعث التعجُّب: أنّه رغم وضوح البشارة وعلامات النبوَّة اتّهموه بالسحر، والضمير في قالوا ليس شرطًا عَوده على بني إسرائيل، أي: الذين بشَّرَهم عيسى عليه السلام بأعيانهم، وهذا مثل قول العرب: (عندي درهم ونصفه) أي: ونصف مثله.
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُوَ یُدۡعَىٰۤ إِلَى ٱلۡإِسۡلَـٰمِۚ﴾ أي: لا أحد أظلَم منه.
﴿وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ تأكيدٌ لعدل الله في الخلق؛ فالله لا يُضلُّ إلَّا مَن يستحقُّ الضلالة ويسعَى لها.
﴿یُرِیدُونَ لِیُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ﴾ أي: يُريدون أن يطمسوا نور الوحي بأقاويلهم وشُبهاتهم.
﴿وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ﴾ بإتمام النعمة وإكمال الرسالة حتى تبلغ ما بلغ الليل والنهار.
﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ﴾ أي: أرسل محمدًا بالدِّين الذي هو دينُ الهُدى فليس فيه ضلالةٌ، ودينُ الحقِّ فليس فيه باطلٌ.
﴿لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ﴾ أي: ليُعلِيَ شأنَه، ويُقيمَ حُجَّتَه على كلِّ ما يتديَّن به الناس.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَـٰرَةࣲ تُنجِیكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ﴾ عاد القرآن إلى المؤمنين يستحثُّهم على الاستعداد للدفاع عن هذا الدين والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال.
﴿تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ تفسيرٌ للتجارة الرابحة التي دعاهم إليها.
﴿یَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَیُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ﴾ تفسيرٌ للربح المرجوّ من تلك التجارة، ثم أكَّد هذا المعنى في ختام الآية: ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾.
﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحࣱ قَرِیبࣱۗ﴾ هذا رِبحٌ مُضافٌ على أصل الرِّبح، وهو الرِّبحُ الذي يُحرِزُه المؤمنون في الدنيا، ولا شكَّ أنّ هذا الرِّبح مهما كان عزيزًا ومرغُوبًا، فحقُّهُ التأخيرُ قِياسًا برِبحِ الآخرة.
﴿كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ﴾ ترغيبٌ آخر بالجهاد نُصرةً لدين الله، أمّا الله ﻷ فلا يحتاج من أحدٍ نُصرة، ونصر الدين هو جزءٌ من مُتطلَّبات عقيدة الاختبار.
﴿كَمَا قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ لِلۡحَوَارِیِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱلـلَّــهِۖ﴾ والحواريون هم: الخُلَّص من أصحاب عيسى عليه السلام، وقد اختارَهم الله هنا نموذجًا للتأسِّي، كما اختارَ إبراهيمَ وقومَه في السورة السابقة؛ تأكيدًا لوحدة الرسالات السماويَّة، وأنّها من مِشكاةٍ واحدةٍ.
﴿قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱلـلَّــهِۖ﴾ أي: استجابوا له، وهنا تعريضٌ بمن تخلَّف عن رسول الله وتقاعس عن الجهاد.
﴿فَـَٔامَنَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ وَكَفَرَت طَّاۤىِٕفَةࣱۖ﴾ أي: آمَنَت برسالة عيسى عليه السلام طائفةٌ من بني إسرائيل، وكفَرَت به أخرى.
﴿فَأَیَّدۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَـٰهِرِینَ﴾ أي: رفع الله شأنَ المُصدِّقين برسالة عيسى عليه السلام، وخفَضَ شأن اليهود الذين كذَّبوه، وهذا مُلاحظٌ وملموسٌ؛ حيث كان النصارى هم بناة الدول والحضارات، وبقِيَ اليهود يعيشون في الظلِّ، ويعملون في الخفاء، ويُهجَّرُون من مكانٍ لآخر، ولا يستقلُّ أمرُهم ويستقرُّ إلَّا بالاعتِماد على غيرهم.