﴿إِذَا جَاۤءَكَ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ﴾ المنافقون : جمع منافق، وهو الذي يُبطِنُ الكفر وعداوة المسلمين ويُظهِرُ خلاف ذلك، وهم فئة تشكَّلت بعد أن قوِيَت شوكة المسلمين في المدينة بعد الهجرة.
﴿قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ ۗ﴾ هذا مِمَّا كانوا يُظهرونه، والحقيقة عندهم بخلافه؛ ولذلك عقَّب الله عليهم:
﴿وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ لَكَـٰذِبُونَ﴾ فشهادتهم منقُوضة بشهادة الله عليهم، ولدفع التوهُّم في تكذيب الله لشهادتهم، قدَّم القرآن تأكيده بصدق الرسول
ﷺ:
﴿وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ﴾.
﴿ٱتَّخَذُوۤاْ أَیۡمَـٰنَهُمۡ جُنَّةࣰ﴾ أيمانٌ: جمع يمين، وهو هنا: الحَلِف، والجُنّة: التُّرْس وما يتخذ للوقاية، والمقصود أنّهم اتخذوا كذبهم بادِّعائهم الإسلام وتكرار حلفهم على ذلك؛ ليدفعوا عن أنفسهم العقاب والحكم عليهم بالردّة أو الكفر المُطلَق، وما ينبَني على هذا الحكم.
﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ﴾ أي: صدُّوا أنفسَهم عن الدخول الصحيح في الإسلام، وعملوا على صدِّ الناس أيضًا بتهوين شأن الإسلام، وإثارة الشبهات، ونحو هذا.
﴿ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ أي: آمنوا بألسنتهم، ثم استمرُّوا على الكفر، ولا يبعُد أن يكون بعض المنافقين قد آمَنَ في بداية الأمر ثُمَّ لامه قومه وأصدقاؤه من المنافقين فأضلُّوه؛ إذ
المنافقون ليسوا على سجيَّةٍ واحدةٍ، بل هم أشكالٌ وأشتاتٌ من حيث بواعث نفاقهم، وشدّة عداوتهم، وغير ذلك.
﴿فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ خُتِمَ عليها بالكفر، فهم لا يؤمنون ولا يُرجى إيمانهم.
﴿۞ وَإِذَا رَأَیۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ﴾ من أثرِ التنعُّم وحُسنِ الهيئة والمظهر.
﴿وَإِن یَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ﴾ أي: إنَّ قولهم من شأنه أن يُسمَع لفصاحته، وحُسن نظمه، وقوّة إقناعه.
﴿كَأَنَّهُمۡ خُشُبࣱ مُّسَنَّدَةࣱۖ﴾ الخُشُبُ: جمع خشبة، ومُسنَّدة أي: لا تقف بنفسها، بل تسند إلى حائط ونحوه، فهم كالتماثيل الأنيقة التي لا روح فيها، ولا وعي عندها، ولا يُرجى منها خير.
﴿یَحۡسَبُونَ كُلَّ صَیۡحَةٍ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ بمعنى أنّهم قَلِقون خائفون مُتوجِّسون من أيَّةِ حركةٍ يقوم بها المسلمون، خشية أن يكونوا قد افتضح أمرهم، وانكشفت سريرتهم.
﴿هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ﴾ صنَّفهم القرآن على أنَّهم أعداء، ثُمّ لم يأمر بأكثر من الحذر منهم، فلم يأمر بقتالهم مثلًا كما يأمر بمقاتلة الأعداء الآخرين، ولم يأمر بإخراجهم كما أخرج بني النضير؛ وفي هذا حكمةٌ بالغةٌ في التعامل مع
الأحزاب والجماعات التي تُظهر الإسلام لكنّها تُخفي خلافه، وقد تظهر دلائل ذلك من بعض التصرُّفات ولحن المقولات، فلا تصح مُقاتلتهم ولا إخراجهم إلا بتمرُّدِهم المُسلَّح على سلطان الدولة، وهذا ما لم يفعَله
المنافقون ، فأمِنُوا على أنفسهم وأموالهم في دولة الإسلام.
﴿قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ﴾ هذا القول ليس حكمًا بقتالهم، بل هو قولٌ مسُوق مساقَ الدعاء عليهم، وغايته الإنكار والتشنيع عليهم وعلى أفعالهم.
﴿أَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴾ أي: كيف يُصرَفون عن الحقِّ، والعبارة تفيد التعجُّب.
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ یَسۡتَغۡفِرۡ لَكُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ﴾ هذا قول الناصحين لهم مِمَّن يظنُّ أنّ زلَّاتهم هذه لا تُخفِي وراءها نفاقًا، فينصَحُونهم بالاعتِذار عند رسولِ الله
ﷺ.
﴿لَوَّوۡاْ رُءُوسَهُمۡ﴾ أدارُوا رؤوسهم، وأعرَضوا بها استكبارًا واستنكافًا.
﴿سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ﴾ لأنّ قلوبهم مطبوعة على الكفر والنفاق، فلا ينفَعهم نصحٌ، ولا ينفعهم استغفارٌ، وفيه إشارةٌ إلى حرصه
ﷺ على هدايتهم وتوبتهم.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ بمعنى أنَّ الله لا يُكرِه أحدًا على الإيمان، وهذا من تمام العدل في تحقُّق معنى الاختبار؛ فمن يطلُب الهداية يهتدي، ومن يطلُب الضلالة يضلُّ، وكلٌّ مجزِيٌّ بعمله.
﴿هُمُ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ یَنفَضُّواْۗ﴾ أي: كانوا يتواصَون بينهم بالكفِّ عن الإنفاق على من حَول رسول الله
ﷺ من الفقراء والمساكين حتى لو كانوا من أقربائهم أو ذوي رحِمِهم بُغيةَ أن ينفضُّوا عنه ويترُكُوه.
﴿یَقُولُونَ لَىِٕن رَّجَعۡنَاۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ لَیُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ﴾ هذه مَقُولةٌ لزعيم المنافقين ينالُ بها من رسول الله
ﷺ ويتوعَّده، ومع معرفته
ﷺ بهذه المَقُولة وبقائلها وتمكُّنه منه تمام التمكُّن، إلَّا أنَّه عفا عنه وصفح، وهذا من حِلمِهِ
ﷺ، وتعليمه للمسلمين كيفيَّة التعامل مع مثل هذا الصِّنف من الناس، والسياق يُظهِر أنَّ هذه المقُولة الوقِحَة كانت في إحدى الغزوات؛ حيث كان رسول الله
ﷺ خارج المدينة ومعه أصحابه وعامَّة المسلمين، وكان معهم ابن أُبيِّ بن سَلول هذا.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَ ٰلُكُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ هذه وصيَّةٌ للمؤمنين ألا ينشغِلوا بمتاع الدنيا عن ذِكر الله، والذِّكرُ الذي لا يجوز الانشغال عنه بالمُباحات إنّما هو الذِّكرُ الواجب؛ كالصلوات الخمس، وحضور الجمعة، ومناسك الحج، وتعلُّم فرائض الدين، والتعريض هنا بالمنافقين الذين صدَّتهم الدنيا عن الإيمان وعن ذِكرِ الله الذي هو القرآن.
﴿فَیَقُولَ رَبِّ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنِیۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ فَأَصَّدَّقَ﴾ هذا نَدَمُ المُقصِّر مع نفسه، والذي يترُك وراءَه مالًا وكان قادرًا على أن يتصدَّق به في حياته، فلما حِيلَ بينه وبينه، ورأى الموتَ أمامَه تمنَّى أن لو يرجِع قليلًا ليتصدَّق من ماله هذا الذي ادَّخَرَه، لكن سنَّةُ الله بخلافِ ذلك، فيأتِيه الردُّ:
﴿وَلَن یُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَاۤءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾.