سورة الطلاق تفسير مجالس النور الآية 6

أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُواْ عَلَیۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمۡلࣲ فَأَنفِقُواْ عَلَیۡهِنَّ حَتَّىٰ یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَیۡنَكُم بِمَعۡرُوفࣲۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ ﴿٦﴾

تفسير مجالس النور سورة الطلاق

المجلس التاسع والخمسون بعد المائتين: فقه الطلاق


سورة الطلاق


الأصل في الزواج أنّه عقدٌ دائمٌ بين رجلٍ وامرأةٍ لتأسيس حياةٍ مُشتركةٍ تقوم على الاستقرار والسكينة، والمودّة والرحمة، لكن هذا يعتمد على التوافُق النفسي والعاطفي بين الطرفَين، وعليه فرُبَّما يكتشف الطرفان أو أحدهما أنّ الحياة المشتركة هذه لا يمكن لها أن تستمر لتنافر الطبائع، أو لأمرٍ آخر يجعل استمرار العلاقة متعذِّرًا، أو لا يحقق سكنًا ولا مصلحة.
مِن هنا شرَّع الإسلام الطلاق؛ لكي لا يُجبِر الطرفين أو أحدهما على الاستمرار في حياة لا يراها صالحة له، ومع هذا فقد جعل الطلاق على مراحل مُتدرِّجة، ووضع له ضوابط مُحدَّدة، وبنَى عليه حقوقًا مُعيَّنة؛ ليطمئنّ أنّه جاء نتيجة قرارٍ واعٍ، ورأيٍ مُستقرٍّ، وليس بسبب فَورة غضبٍ، أو ردَّة فعلٍ طارئةٍ، وأنّهما بعد الفراق يأخذ كلّ واحدٍ منهما حقَّه دون مَيلٍ أو ظلمٍ، وكما يأتي:
أولًا: حدَّد القرآن وقتًا مُعيّنًا للطلاق ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾واللام هنا للتوقيت؛ كما قال في الصلاة: ﴿أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ﴾ [الإسراء: 78] أي: عند دُلوك الشمس، والوقت المُحدَّد للطلاق أن تكون في حالة طُهرٍ لم يُجامعها فيه، فلا يجوز تطليقها وهي حائض.
وقد ورد أن ابن عمر  كان قد طلَّق امرأته وهي حائض، فأمره النبيّ أن يَرُدَّها حتى تَطْهُر، فإن شاء طلَّق أو أمسك.
ثانيًا: حدَّد القرآن وقتًا تنتظر المرأة فيه وتمكُث في بيتها فلا يجوز إخراجها منه، وهذا الوقت هو عِدَّةُ المُطلَّقة ﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخۡرُجۡنَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِی لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ أَمۡرࣰا﴾، وقد فسَّرت آية البقرة هذه العِدَّة: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَـٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ﴾ [البقرة: 228]، أي: ثلاث دوراتٍ شهريّةٍ، وهذا وقتٌ كافٍ للتفكير والمراجعة وتدخُّل أهل الخير للإصلاح، فللزوج في هذا الوقت أن يرجع إليها، فإن لم يرجع حتى انتهاء الوقت كان هذا أمارةً على أنّ الطلاق لم يكن لفَورة غضب، أو ردَّة فعلٍ طارئةٍ ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲ﴾.
ثالثًا: أمرَ القرآن بتوثيق أمرهما، سواء كان إمساكًا أو فراقًا، والتوثيق يكون بالإشهاد ﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَیۡ عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ وَأَقِیمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ یُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجࣰا﴾ وفائدة الإشهاد هنا: ضمان حقّ الطرفين، وضمان ألا يقَع خلافٌ آخر بينهما؛ فلو ادَّعى مثلًا أنّه راجَعَها في العِدَّة ونفَت ذلك أو العكس، فسيكون هذا مثارَ نزاعٍ آخر لا يُريدُه الإسلامُ لهما، والله أعلم.
رابعًا: فصَّلَ القرآن - إتمامًا لموضوع العدَّة ومقدارها - حُكمَ المرأة التي لا تَحِيضُ، كأن تكون بلَغَت سنَّ اليأس، فإنّها تعتَدُّ بثلاثةِ أشهُر ﴿وَٱلَّـٰۤـِٔی یَىِٕسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِیضِ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـٰثَةُ أَشۡهُرࣲ وَٱلَّـٰۤـِٔی لَمۡ یَحِضۡنَۚ﴾.
وأمّا المرأة الحامل - والتي هي حالة ثالثة - فلها عدَّتها الخاصّة بها ﴿وَأُوْلَـٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ یُسۡرࣰا ﴿٤﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥۤ إِلَیۡكُمۡۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَیِّـَٔاتِهِۦ وَیُعۡظِمۡ لَهُۥۤ أَجۡرًا﴾.
خامسًا: فصَّل القرآن أيضًا بعض الأحكام والتوجيهات المُتمِّمة لحقوق المُطلَّقة، ومن ذلك: أن يضمَن لها زوجها سكنها المناسب لها بحسب استطاعته ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ﴾.
ومنها: تحريم الإضرار بهنّ والتضييق عليهنّ بأيِّ شكلٍ من الأشكال ﴿وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُواْ عَلَیۡهِنَّۚ﴾.
ومنها: وجوب النفقة على المطلّقة الحامل، وإعطائِها الأجر على رضاعة الولد من يوم ولادته، فإن اختلَفَا في ذلك اختِيرَت له مُرضِعة أخرى ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمۡلࣲ فَأَنفِقُواْ عَلَیۡهِنَّ حَتَّىٰ یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَیۡنَكُم بِمَعۡرُوفࣲۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ﴾.
سادسًا: رغَّب القرآنُ بالنفقة على المطلَّقات المُعتدَّات بما يُغنِيهنّ ويسدُّ حاجتَهنَّ، وكلٌّ بحسب وسعه ﴿لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ سَیَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرࣲ یُسۡرࣰا﴾.
سابعًا: في ثنايا أحكام الطلاق هذه، كرَّر القرآن الوصيَّة بالتقوى، ووعد المتقين بالسعة وإصلاح الحال ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ﴾، ﴿ذَ ٰ⁠لِكُمۡ یُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجࣰا ﴿٢﴾ وَیَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَحۡتَسِبُۚ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا﴾، ﴿وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ یُسۡرࣰا ﴿٤﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥۤ إِلَیۡكُمۡۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَیِّـَٔاتِهِۦ وَیُعۡظِمۡ لَهُۥۤ أَجۡرًا﴾، وحذَّر من الظلم والجور ومجاوزة الحدِّ ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ﴾.
وهذا التأكيد يُقصَدُ به: ضمان حقوق الطرفَين بدوافع إيمانيَّة أخلاقيَّة، أمَّا اللجوء في كلِّ شيءٍ إلى القضاء مُكابرةً ومُغالبةً فهذا ليس من شأن المتّقين؛ إذ القاضي إنّما يحكم بما يستَقصِيه من أدلة وقرائن، فهو لا يعلم الغيب، وحياةُ الزوجين أكبر وأوسع من أن تستقصيها أدلة القاضي وقرائنه، ومِن ثَمَّ كان الذي يعلَم أنّه آخِذٌ حقّ غيره ولو كان بحكم القاضي آثمًا ظالمًا.
ثامنًا: بعد هذا التفصيل في أحكام الطلاق، عاد القرآن إلى الأصل الذي يقوم عليه المجتمع، وهو الإيمان بالله ورسله وما أنزل من البيِّنات والهدى، مُحذِّرًا في البداية من الخروج عن هذا النهج المستقيم ﴿وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَـٰهَا حِسَابࣰا شَدِیدࣰا وَعَذَّبۡنَـٰهَا عَذَابࣰا نُّكۡرࣰا ﴿٨﴾ فَذَاقَتۡ وَبَالَ أَمۡرِهَا وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمۡرِهَا خُسۡرًا ﴿٩﴾ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ یَـٰۤأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْۚ قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیۡكُمۡ ذِكۡرࣰا﴾.
ثُمّ يوجِّهُ خطابه إلى المؤمنين ليتَّقُوا الله، وليتمسَّكُوا بهَديِه والنور الذي أنزَلَه إليهم ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ یَـٰۤأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْۚ قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیۡكُمۡ ذِكۡرࣰا ﴿١٠﴾ رَّسُولࣰا یَتۡلُواْ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ مُبَیِّنَـٰتࣲ لِّیُخۡرِجَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ﴾.
ثُمّ يُرغِّبُهُم في ذلك ويعِدُهم بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار ﴿وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَیَعۡمَلۡ صَـٰلِحࣰا یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ قَدۡ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ لَهُۥ رِزۡقًا﴾.
ومُناسبة هذه التوجيهات وتلك التحذيرات لما تقدَّم من أحكام الطلاق لا تَخفَى على مُتدبِّرٍ؛ فكلُّ تلك الأحكام إنّما هي فَرعٌ لهذا الدين، وخَيطٌ من نوره المبين، وهي المحلُّ الدقيقُ لاختبار إيمان المؤمنين، وتديُّن المُتديِّنين، فمَن ظلمَ وطغى وتجاوز الحدَّ في حقوق امرأته أو مطلَّقته، كيف نأمَنُه على حقوق الآخرين وأعراضهم وأموالهم؟
إنّها المؤشِّر على مستوى الإيمان العملي، والتديُّن الفعلي، أمّا الإكثار من الركعات والسجدات، وتكرار العُمرات مع هذا الظلم الواقع في المعاملات، فليس ذاك سوى تغرير بالنفس، وتشويه للدين.
تاسعًا: تختتم السورة بالتذكير أنّ الله سبحانه خالق السماوات والأرضين، وهو صاحب الأمر فيهنَّ، وهو المُقتدر عليهنَّ، والعليم بما يجري فيهنَّ، فلا يُعجزه منهن شيءٌ، ولا يغِيبُ عن علمه شيءٌ ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰ⁠تࣲ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّۖ یَتَنَزَّلُ ٱلۡأَمۡرُ بَیۡنَهُنَّ لِتَعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عِلۡمَۢا﴾.


﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ﴾ الخطاب للأُمّة في شخص نبيِّها ؛ لأنَّ هذا من التشريع العام لكلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ.
﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي: في الوقت المُحدَّد للطلاق، وهو الطُّهْر الذي لم يحصل فيه جِماع، واختيار هذا الوقت له أكثر من فائدة:
منها: أنّ المرأة في حالة الحيض تمرُّ بوضعٍ نفسيٍّ مختلفٍ؛ فقد تصدر منها ألفاظ أو تصرُّفات تُثير الرجل، فلو طلَّقَها في حَيضَتها لكان مُتعجِّلًا ومُتهوِّرًا وظالمًا لها.
ومنها: أنّ تحديد الطلاق بوقتٍ مُعيَّنٍ يمنَحُ الفرصةَ للتريُّث والتفكير، وكلّ هذا يؤكِّد أنّ الإسلام لا يُريد التسرُّع بالطلاق، بل هو حريصٌ على استِقرار الأسرة، واستِمرار الحياة الطبيعية فيها.
﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ﴾ الإحصاء معناه: العدُّ والضبط، فالمُعتدَّة ينبغي لها أن تعدّ أيام عِدَّتِها بدقةٍ لما ينبَنِي عليها من أحكامٍ دقيقةٍ.
﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُیُوتِهِنَّ﴾ أضافَ البيتَ لها وإن كان مِلكًا لزوجها؛ لأنّه من حقِّها أن تستقرَّ فيه حتى انتِهاء عِدَّتها، وفي العبارة من اللُّطف بها ومن المُراعاة لوضعها النفسي والاجتماعي ما لا يَخفَى.
﴿وَلَا یَخۡرُجۡنَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ﴾ هذا استِثناءٌ مِن حقِّها في السُّكنَى في بيت زوجها؛ إذ للبيت حُرمته، وانتِهاكها لهذه الحُرمة يحرِمُها مِن حقِّها هذا، وفي الحقيقة هذا حكمٌ عامٌّ في المُطلَّقة وغيرها، لكن التنبيه على حالة الطلاق؛ لأنّ الزوج المُطلِّق لم يعُد مُنتبهًا لها كما كان، ومدَّة العِدَّة قد تطول إلى ثلاثة أشهرٍ، وقد تكون المرأة ضعيفة الدين، قليلة الحياء؛ فوقوعُها في الإثم وارِدٌ، فوجَبَ الاحتياط والتنبيه، والله أعلم.
﴿لَا تَدۡرِی لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ أَمۡرࣰا﴾ أي: أمرًا فيه الخير لهما، وفي هذا تعليلٌ لما شرَّعَه الله للمُطلَّقة من المكُوث في بيتها مُدَّة العِدَّة؛ فإن ذلك مظنَّة الصُّلح والتراجُع، بخلاف ما لو خرَجَت فور سماعِها لكلمة الطلاق، فإن دواعي الصلح تكون أبعَد، والله أعلم.
﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: قارَبنَ انتهاء العِدَّة.
﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ﴾ أي: لكم أن تُراجِعوهن وتتمسَّكوا بِهنَّ، فتحسب هذه طلقة رجعيَّة.
﴿أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲ﴾ فيمضي الطلاق على حاله من غير تراجُع، فيكون بائِنًا بينونةً صُغرى لا يحقُّ له إرجاعها إلَّا بعقدٍ جديدٍ.
﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَیۡ عَدۡلࣲ﴾ أي: أَشْهِدُوا على الإرجاع أو الفراق بشاهدَين عدلَين، درءًا لخلافٍ آخر قد يقَع بينهما، وتوثيقًا لحقِّهما حتى لا يظلِمها ولا تظلِمه.
﴿وَأَقِیمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ﴾ أمرٌ للشاهد أن يؤدِّي شهادته وقت الحاجة إليها كما شهِدها، وأمرٌ للمختلفَين أيضًا أن يحرِصَا على الحقِّ ولا يخرُجَا عن مضمون الشهادة الحقّة بمطلٍ، أو حيلةٍ.
﴿وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجࣰا﴾ وعدٌ إلهيٌّ لمن يتوخَّى حقَّ الله ولا يتجاوَز حدوده حتى مع من اختَلَف أو اختَصَم معه؛ فالرجل التقيُّ إن أمسك أو فارَقَ عن قصد التقوى، وليس غضبًا أو حميَّةً فالله يكتب له الخير، وكذلك المرأة إن التَزَمَت بتعاليم دينها، وبقِيَت في بيتها صابرةً مُحتسبةً حتى يتبيَّن أمرها، فهي إلى خيرٍ، والله لن يضيّعها.
﴿وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ﴾ أي: كافِيه ومُغنِيه.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ﴾ أي: مُنفِّذ حُكمه في خلقه كما يشاء سبحانه.
﴿قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا﴾ أي: أجلًا وغايةً ووقتًا مُحدَّدًا، بمعنى ألا تستبطِئوا فرَجَ الله، فالله بالغ أمره، ولكن لكلِّ أمرٍ وقته وأجله.
﴿وَٱلَّـٰۤـِٔی یَىِٕسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِیضِ﴾ أي: بلَغنَ السن الذي لا تحيض فيه المرأة.
﴿إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ﴾ هذه إضافةٌ بيانيَّةٌ لحالةٍ تعترض المرأة الكبيرة من أنّها ترى دمًا، فلا تدري أهو من الحيض أم لا، أو أنّها تحيض حَيضات متقطِّعة وغير مُنتظمة، فإن كانت في مرحلةٍ قريبةٍ من سنِّ اليأس، فحُكمُها حكم اليائسة، أي: تعتَدُّ بثلاثة شهورٍ، والله أعلم.
تجدُرُ الإشارةُ هنا أن عبارة (سن اليأس) يُقصَد بها اليأس من المَحِيض لا غير.
﴿وَٱلَّـٰۤـِٔی لَمۡ یَحِضۡنَۚ﴾ لصِغَرهنَّ، أو لأي سببٍ آخر، فعدَّتهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ كعِدَّة اليائسة من المحيض.
﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم﴾ أي: أسكنوهنَّ عندكم، وفي هذا ترغيبٌ لهما بالصلح، والله أعلم.
﴿مِّن وُجۡدِكُمۡ﴾ أي: مما تجِدونه من سعتكم.
﴿وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُواْ عَلَیۡهِنَّۚ﴾ أي: ولا تؤذوهنَّ لتُضَيِّقوا عليهن حتى يخرُجن، فالسُّكنَى حقٌّ لهنَّ، وإخراجُهنَّ بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ إثمٌ وظلمٌ.
﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمۡلࣲ فَأَنفِقُواْ عَلَیۡهِنَّ حَتَّىٰ یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ﴾ خصَّ الحامل بالذِّكر من بين المطلَّقات؛ لأنّ مُدَّة الحمل قد تطُول، فاقتَضَى التنبيه على أن نفقَتَها واجبةٌ مهما طالَت مُدَّتها، وأيضًا فإنّ الحامل تستحقُّ النفقة حتى لو كانت مُطلَّقة طلاقًا بائِنًا، بخلاف غيرها؛ فإنّ غير الحامل لا تستحقُّ النفقة إلَّا إذا كانت مطلَّقة طلاقًا رجعيًّا.
﴿فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ بمعنى أنّها بوِلادتها تُصبح بائِنًا حتى لو كان طلاقها رجعيًّا؛ لأنّ مُدَّة المراجعة انتَهَت، وفي هذه الحالة أصبَحَت امرأة أجنبيَّة تستحقُّ الأجرَ على إرضاعها.
﴿وَأۡتَمِرُواْ بَیۡنَكُم بِمَعۡرُوفࣲۖ﴾ أي: تشاوَروا بما فيه مصلحة الرضيع.
﴿وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ﴾ أي: إن اختلفتم في أجر الرضاع.
﴿فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ﴾ بمعنى أنَّ الرضيع لا يُترك من غير مُرضعةٍ اتفقتم أو اختلفتم.
﴿لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ﴾ ترغيبٌ للغنيِّ بالتوسّع في النفقة على مُطلَّقته، وفي أجرها الذي تستحِقُّه مُقابل إرضاعها لولده.
﴿وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ﴾ توضيحٌ لحكم الفقير المُكلَّف بالنفقة على المُطلَّقة أو المُرضِعة، فلا ينبغي الإضرار به، ومعنى هذا أنَّ النفقة الواجبة تختلِف باختِلاف اليُسرة والعُسرة، وعلى المجتمع - وكذلك القاضي - إن بلغت المسألة عنده أن يُقدِّر ذلك.
﴿سَیَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرࣲ یُسۡرࣰا﴾ وعدٌ إلهيٌّ بتيسيرِ الأمور لكلِّ صادقٍ سَمحٍ قاصدٍ للحقِّ، وفتحٌ لباب الأمل والفأل الحسن.
﴿وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ﴾ أي: وكثيرٌ مِن القرى.
﴿عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ﴾ أي: تمرَّدَت على شريعة الله وأحكامه، والتعريض هنا بمَن يتمرَّد على الأحكام المُتقدِّمة في الطلاق وما يتعلق به من عِدَّةٍ ونفقةٍ ونحوهما.
﴿فَذَاقَتۡ وَبَالَ أَمۡرِهَا﴾ أي: فذاقَت عقوبة الله لها على تمرُّدها.
﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ یَـٰۤأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾ بأخذ العبرة من هذه القرى المُتمرِّدة الهالكة.
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰ⁠تࣲ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّۖ﴾ أي: في العدد، أمّا في غير العدد فبينهما من التفاوُت ما لا يعلمه إلَّا الله.
﴿یَتَنَزَّلُ ٱلۡأَمۡرُ بَیۡنَهُنَّ﴾ أي: يتنزَّل الوحي من السماء إلى الأرض، وهذا إشعارٌ بجديَّة تلك التشريعات التي أنزَلَها الله تعالى في هذه السورة العزيزة، وأنّها من الوحي المعصُوم من الخطأ أو الزَّلَل.
﴿لِتَعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عِلۡمَۢا﴾ أي: لتتذكَّروا قُدرةَ الله عليكم؛ إذ هو الذي خلق هذا الكون بسماواته وأرضيه، وتتذكَّروا عِلمَه المحيط بكم؛ إذ هو الذي يُسيِّرُ أمورَ هذا الكون، ولا يخفَى عليه منه شيءٌ، فهذا أدعَى للالتزام بأمرِهِ ونهيِهِ، ومراقبته والخشية منه سبحانه على كلِّ حالٍ، وفي كلِّ مقالٍ.