﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ﴾ أي: لِمَ تمتنع عمّا أحلّ الله وتحلِف على ذلك، وكان
ﷺ قد حلَفَ ألا يشرب العسل، كما تقدَّم.
﴿تَبۡتَغِی مَرۡضَاتَ أَزۡوَ ٰجِكَۚ﴾ وهذا من حِلمِه
ﷺ، وعظيم خُلُقه وتواضُعه، وليس منقصةً في الزوج أن يبتَغِي مرضاةَ زوجَتِه؛ فالعِتابُ مُوجَّهٌ لنقطةٍ واحدةٍ فقط: أن يُحرِّم النبيُّ شيئًا مُباحًا على نفسه، وهو الأُسوةُ الحسنةُ لكلِّ المؤمنين معه ومن بَعده.
﴿تَحِلَّةَ أَیۡمَـٰنِكُمۡۚ﴾ أي: التحلُّل من الأَيمان بالكفارة المعروفة، والأَيمان جمع يمين؛ وهي الحلِف.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ﴾ أي: أخبَرَت غيرَها بما أسرَّهُ النبيُّ
ﷺ لها.
﴿وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ﴾ أي: أَطْلَعَهُ على ما كان بين حفصة وعائشة .
﴿عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضࣲۖ﴾ أمَّا الذي عرَّفَه - أي: أبدَاه - فهو الذي أبدَاه لحفصة، مُعاتِبًا لها على إفشاء سِرِّه بعد أن أمَرَها بكَتمِه، وأمَّا الذي أعرَضَ عنه - أي: لم يُبدِه لها -، فلم يذكُره القرآن، ولم يَأتِ بسُنَّةٍ صحيحةٍ؛ فالأَولَى الإعراضُ عن الخَوضِ فيه، لكن الذي يُستفادُ منه أنّ التغافل وغضّ الطرف عن بعض الزلَّات يُعينُ على مُحاصَرَتها وحلِّها.
﴿إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ﴾ الخطاب لعائشة وحفصة يحثُّهما على المُبادَرة بالاعتِذار والتوبة، وقوله:
﴿فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ﴾ أي: إن تُبتُما فقد مالَت قلوبُكما إلى الخير، وإلى البقاءِ مع رسول الله
ﷺ.
﴿وَإِن تَظَـٰهَرَا عَلَیۡهِ﴾ أي: تُصِرَّان على المناجاة بينكما، وتتعاوَنَا فيما لا يُرضِيه
ﷺ.
﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِیلُ وَصَـٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ ظَهِیرٌ ﴾ الجملةُ واقعةٌ في جواب الشرط، ومعناها أنّ الله ناصِرُه ومُؤيِّده، ثم جبريل والمؤمنون في الأرض والملائكة في السماء، وهذا كلُّهُ لإظهارِ شرَفِ رسولِ الله
ﷺ وعظيم مكانته عند ربِّه، وتأديبٌ للمسلمين عامَّة، وتهديدٌ لمَن حول المسلمين من يهود ومشركين ومنافقين، بمعنى أنّ الجواب وإن كان مُتعلِّقًا بمناسبةٍ جزئيَّةٍ، لكن مدلوله أكبر وأوسع من تلك المناسبة ومُلابساتها.
﴿عَسَىٰ رَبُّهُۥۤ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾ هذا تنبيهٌ مُستأنَفٌ لكلِّ زوجاته
ﷺ، وليس خاصًّا بهما، أن يُحافِظن على هذا الشرَف العظيم الذي حبَاهنَّ الله به، وكونهنُّ أُمّهاتٍ لكلِّ المؤمنين.
﴿أَن یُبۡدِلَهُۥۤ أَزۡوَ ٰجًا خَیۡرࣰا مِّنكُنَّ﴾ في حالة تولِّيهنَّ عن تلك المكانة العظيمة بارتكابهنِّ ما يُغضِبُ الله ورسوله، وهذا الافتِراض لم يقَع، فدلَّ على أنهنَّ كُنَّ كما يُريد الله، وكما يحبُّ رسولُه، فهنَّ الأحبُّ إلى رسول الله، والأليَقُ له من كلِّ نساء الأرض، وأمّا الهفوة التي حصَلَت من بعضهنَّ فكانت درسًا بليغًا لهنَّ، وموعظةً للمسلمين والمسلمات عامَّة في التأدُّب مع رسول الله
ﷺ، والهفوةُ هذه لم تكن إلَّا بدافع حُبهنَّ له، وغيرتهنَّ عليه.
﴿مُسۡلِمَـٰتࣲ مُّؤۡمِنَـٰتࣲ قَـٰنِتَـٰتࣲ تَـٰۤىِٕبَـٰتٍ عَـٰبِدَ ٰتࣲ سَـٰۤىِٕحَـٰتࣲ ثَیِّبَـٰتࣲ وَأَبۡكَارࣰا ﴾ هذه الصفات هي التي يُريدها الله في أُمّهات المؤمنين، والخطابُ بالإشارةِ لهنَّ أن يكُنَّ بهذه الصفات، وإن كانت الصيغة لنساء أُخريات، ولكنهنَّ نساء مُفتَرَضات؛ لأنّ الله تعالى يعلَمُ أنّه لن يُطلِّقهنَّ، فعُلِمَ أنّ تحقُّق هذه الصفات هو المطلوب، وقد تحقَّقَت في أُمّهات المؤمنين ، والقانِتات: الطائِعات، والسائِحات: الصائمات، أو المُخلِصات لدين الله، المُنقَطِعات إليه.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ ﴾ هذا تذكيرٌ للمؤمنين أن يحافظوا على إيمانهم، وأن يقوموا بمُتطلَّبات هذا الإيمان من أداءٍ للواجبات، وابتعادٍ عن المُحرَّمات، وكان الدرس المأخوذ من بيت النبيِّ
ﷺ مناسبة للتذكير أيضًا بمسؤوليَّة تعهُّد كلّ مسلمٍ لأهل بيته بالنصح والموعظة، والتذكير بالآخرة.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَا تَعۡتَذِرُواْ ٱلۡیَوۡمَۖ ﴾ هذه انتِقالةٌ من السياق لنقل صورةٍ من عذاب النار التي أمَرَ الله المؤمنين أن يَقُوا أنفسَهم وأهلِيهم منها.
وذِكرُ الكافرين هنا يُوحي بأنّ النار خُلِقَت للكافرين؛ بحيث إنّ القرآن حتى وهو في سياق مخاطبة المؤمنين وتحذيرهم من النار جاء بمشهدٍ يخص الكافرين.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةࣰ نَّصُوحًا ﴾ هذا أمرٌ بالتوبة، والأصل في الأمر: الوجوب، والتوبة: الاعتِرافُ بالذنب والندمُ عليه، وطلبُ العفو والمغفرة، وإرجاعُ الحقِّ إلى أهله، والعزمُ على ترك الذنب وعدم العودة إليه، والتوبة النَّصُوح: هي التي لا غِشَّ فيها، بمعنى أنّها توبةٌ صادقةٌ ومُستوفيةٌ لشُروطها.
﴿عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ ﴾ عسى هنا للرجاء المُتحقِّق؛ فمن تابَ توبةً نَصُوحًا قبِلَ الله تعالى توبته بوعده تعالى وفضله وكرمه.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ جَـٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ ﴾ جَمَعَ الكفار والمنافقين تحت حكم الجهاد، وهذا من المُجْمَل الذي فصَّله القرآن في آياتٍ أخرى، وفصَّلته السُّنة؛ فجهاد الكافر على ضربَين: إن كان مُقاتِلًا وعدوًّا مُحاربًا فيُجاهَد بالقوة، وإن كان مُسالِمًا فيُجادَل بالتي هي أحسن، ويُدعى إلى الإسلام بالرفق واللين.
وأمّا المنافق فلا يُجاهَد بالسيف، وسيرتُه
ﷺ كلّها شاهدة على ذلك، وإنّما جهادهم بمراقبتهم والحذر منهم، وكشف مُخطَّطاتهم، ومُحاصرة نِفاقهم بالتربية الصحيحة، ونشر الوعي والفكر الصحيح بين المسلمين.
﴿ وَٱغۡلُظۡ عَلَیۡهِمۡۚ ﴾ أي: واغلُظ على مَن يستحقُّ الغِلظة، وهو الكافر الحربيُّ، والغِلظة صفة في الجندي المجاهد، وهي ضرورةٌ له ولا مناصَ عنها، بخلاف الداعية الذي يكون سلاحُه العلم والحكمة والرِّفق حتى مع الكافرين
﴿۞ وَلَا تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46].
﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا لِّلَّذِینَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحࣲ وَٱمۡرَأَتَ لُوطࣲۖ ﴾ لمّا تقدّم الحديث عن الذين آمنوا والذين كفروا، شاءَ الله ـ أن يُقدِّم أمثلةً من سيرة الذين مضَوا قبلَنا فيها نماذج للكفر، وفيها نماذج للإيمان، والنماذج الميدانية هذه أقربُ لتشخيص الحالة وقياس الحاضر عليها.
فمن الذين كفروا، اختارَ الله امرأتَين كافرتَين لم ينفَعهما أنّهما تحت نبيَّين من الأنبياء، بل ازدادَتا إثمًا وبُعدًا
﴿كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَیۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَـٰلِحَیۡنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ أي: كانتا مع قومهما الكافرين على زوجَيهما، فهي خيانةٌ في الدين والموقف، وليست خيانةً في العِرض والشرف؛ لأنّ هذا قادِحٌ في مقام النبوَّة.
﴿فَلَمۡ یُغۡنِیَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔا وَقِیلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّ ٰخِلِینَ ﴾ لأنّ الكافر لا تُغنِي عنه شفاعة، ولا يُقبَل منه فِداء، وهذا تأكيدٌ لعدله تعالى الذي لا تشُوبه شائبة.
﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا لِّلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِی عِندَكَ بَیۡتࣰا فِی ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِی مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِی مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴾ وهذا المثل المقابل لامرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ؛ إذ كانتا كافرتَين تحت رجُلَين صالحَين، وهذه امرأةٌ صالحةٌ كانت عند زوجٍ كافرٍ، وفي هذا إشارةٌ تربويَّةٌ عميقةٌ؛ وهي أنّ الإنسان مسؤولٌ عن ذاته وعن خياراته، وأنّ الأسرة والبيئة إنَّما هي عناصر مساعدة.
﴿وَمَرۡیَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَ ٰنَ ٱلَّتِیۤ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِیهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَـٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَـٰنِتِینَ ﴾ وهذا مثلٌ آخر للذين آمنوا؛ مريم التي جعلها الله وابنَها آيةً للعالمين، وهي المثَلُ
الأعلى للمرأة المؤمنة التي تُحافظ على عِفَّتها، وتتمسَّك بدينها، وتصبِر على تخرُّصات أعدائها واتهامهم لها، حتى رفعها الله في الدنيا والآخرة.