﴿ٱلۡحَاۤقَّةُ﴾ اسمٌ من أسماء اليوم الآخر، وأصله وصفٌ للساعة، أي: الساعة الثابتة التي لا شكَّ فيها.
﴿كَذَّبَتۡ ثَمُودُ وَعَادُۢ بِٱلۡقَارِعَةِ﴾ أي: كذَّبوا بيوم القيامة، و
القارعة اسمٌ من أسماء القيامة، بمعنى أنّها تقرع القلوب بأهوالها.
﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُواْ بِٱلطَّاغِیَةِ﴾ أي: بالصيحة الطاغية، بمعنى أنّها صيحة متجاوزة للحدِّ الذي يعرفه البشر، أو هي التي طغَت على كلِّ شيءٍ، وأهلكت كلَّ شيءٍ.
﴿وَأَمَّا عَادࣱ فَأُهۡلِكُواْ بِرِیحࣲ صَرۡصَرٍ عَاتِیَةࣲ﴾ أي: بريحٍ شديدةٍ لها صوتٌ، والعاتية بمعنى: الطاغية.
﴿حُسُومࣰاۖ﴾ من الحسم، وهو الاستئصال، بمعنى أنّها استأصلَتْهم فلم تُبْق منهم باقية.
﴿كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِیَةࣲ﴾ أي: كانت جثامينهم كأصول الجذع الخاوية والمُنقعرة.
﴿وَجَاۤءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ﴾ أي: ومن تقدَّمَه من الطغاة.
﴿وَٱلۡمُؤۡتَفِكَـٰتُ﴾ قرى قوم لوطٍ.
﴿بِٱلۡخَاطِئَةِ﴾ أي: بالفعلة الخاطئة.
﴿فَعَصَوۡاْ رَسُولَ رَبِّهِمۡ﴾ أي: إن كلَّ قومٍ من هؤلاء عصَوا رسول ربِّهم الذي أرسله إليهم.
﴿فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةࣰ رَّابِیَةً﴾ والرابية بمعنى: الطاغية والعاتية، أي: أهلكهم إهلاكًا زائدًا عمَّا يعرفه الناس.
﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَاۤءُ حَمَلۡنَـٰكُمۡ فِی ٱلۡجَارِیَةِ﴾ أي: السفينة الجارية في الطوفان، والخطابُ في
﴿حَمَلۡنَـٰكُمۡ﴾ لكافّة البشر؛ لأنَّ البشر جميعًا من ذُريَّة نوحٍ
عليه السلام الذي نجَّاه الله بتلك السفينة.
﴿لِنَجۡعَلَهَا لَكُمۡ تَذۡكِرَةࣰ﴾ أي: ليتذكَّرها الناس ويأخذوا منها العبرة.
﴿وَتَعِیَهَاۤ أُذُنࣱ وَ ٰعِیَةࣱ﴾ والأُذُنُ الواعِية هي التي تُصغِي وتفهم وتستنتج، وهذا تعريضٌ بالمشركين الذين يسمَعون مثل هذه
القصص فيمرُّون عليها لاهِين عابِثين.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِی ٱلصُّورِ نَفۡخَةࣱ وَ ٰحِدَةࣱ﴾ لتنتهي الحياة كلّها بهذه النفخة، ومعلومٌ أنَّ للصور نفخة ثانية هي نفخة البعث والنشور.
﴿وَحُمِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ﴾ ذاك حينما ينزع الله هذا النظام الكوني الذي يضبط حركة الأفلاك، فتضطرب الأرض، وحملها يُشير إلى خروجها عن مدارها وارتِطامها بجرمٍ آخر، ومن هنا يكون دكّها وجبالها.
﴿فَیَوۡمَىِٕذࣲ وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ﴾ والواقعةُ اسمٌ من أسماء القيامة أيضًا، وقد مرَّ معنا ذلك في سورة الواقعة.
﴿وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاۤءُ فَهِیَ یَوۡمَىِٕذࣲ وَاهِیَةࣱ﴾ فالتغيُّر الكوني سيكون شاملًا للأرض والسماء.
﴿وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰۤ أَرۡجَاۤىِٕهَاۚ﴾ المَلَكُ أراد به جِنسَ الملائكة، وليس واحدًا منهم، و
﴿عَلَىٰۤ أَرۡجَاۤىِٕهَاۚ﴾ أي: في جنَبَات السماء وأطرافها كأنَّهم يستعِدُّون لأمرٍ ما، وهذه صورةٌ من صور ذلك اليوم الرهيب.
﴿وَیَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ ثَمَـٰنِیَةࣱ﴾ هذا من الأخبار الغيبيَّة التي لا مجال للعقل أن يُحيط بها، أو أن يُحصِّل صورتها كما هي في عالم الغيب، وليس ذلك مطلوبًا، وإنَّما المطلوب استشعار عظمة ذلك اليوم ورهبته، ثم الاستعداد والتهيُّؤ له.
﴿یَوۡمَىِٕذࣲ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِیَةࣱ﴾ أي: تُعرَضون على الله كما أنتم بذواتكم، وخلَجَات صدوركم وما قدَّمتم لأنفسكم، ولن تخفَى على الله نَفْسٌ منكم، ولا معلومة عنكم مها كبرت أو صغرت.
﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ﴾ وهذه علامة الفوز والفلاح.
﴿فَیَقُولُ هَاۤؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَـٰبِیَهۡ﴾ يقول ذلك لإخوانه المؤمنين؛ لشدَّة فرحه وسروره، ويا لها من فرحةٍ، ويا له من سرورٍ، و
﴿هَاۤؤُمُ﴾ اسم فعلٍ بمعنى: خُذُوا، أي: خذوا كتابي وانظروا فيه.
﴿إِنِّی ظَنَنتُ أَنِّی مُلَـٰقٍ حِسَابِیَهۡ﴾ الظنُّ هنا بمعنى: التيقُّن، بمعنى أنِّي كنتُ مُتيقِّنًا أنِّي سأُلاقِي هذا اليوم، فحسِبتُ له حسابَه.
﴿بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ﴾ أي: هنيئًا لكم هذا النعيم الذي نِلتموه بما قدَّمتم لأنفسكم من أعمالٍ جليلةٍ في حياتكم الماضية.
﴿وَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ﴾ وهذه علامة الشقاء والخسران، والعياذُ بالله.
﴿یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُوتَ كِتَـٰبِیَهۡ﴾ يتمنَّى أن لو لم يَرَ كتابه أبدًا.
﴿وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِیَهۡ﴾ هذا من التمنِّي أيضًا، بمعنى أنَّه يتمنَّى أن لو لم يكن من أهل الحساب، أو أنَّه لم يُبعَث.
﴿یَـٰلَیۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِیَةَ﴾ تأكيدٌ لما سبق، يتمنَّى أن لو كانت موتَته موتةً قاضية لا بعث بعدها.
﴿مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنِّی مَالِیَهۡۜ﴾ يتذكَّر ماله الذي جمعه من حلال وحرام، ما الذي يُغنِي عنه اليوم؟
﴿هَلَكَ عَنِّی سُلۡطَـٰنِیَهۡ﴾ ذلك السلطان والجاه الذي كان يُضحِّي في سبيله بكلِّ شيءٍ؛ يُحارِبُ من أجله المؤمنين، ويُوالِي في سبيله الكافرين، أين هو الآن؟ لقد هلك وهلك معه كلّ شيءٍ.
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ أي: ضَعوه في الأغلال.
﴿ثُمَّ ٱلۡجَحِیمَ صَلُّوهُ﴾ أي: أدخَلوه في الجحيم ليصلَى نارها.
﴿ثُمَّ فِی سِلۡسِلَةࣲ ذَرۡعُهَا سَبۡعُونَ ذِرَاعࣰا فَٱسۡلُكُوهُ﴾ أي: لفُّوها عليه لفًّا حتى يكون كأنّه في داخلها.
﴿إِنَّهُۥ كَانَ لَا یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِیمِ ﴿٣٣﴾ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ تعليلٌ بأهم ما أودَى بهذا الشقيّ في هذا المصير البائس: كفره بالله، وتقصيره بحقِّ المساكين، وهذا الربط ذو دلالاتٍ عميقةٍ؛ حيث يقرِن القرآن بين حقِّ الله تعالى وحقِّ المسكين، ويجعلهما كأنّهما في مستوًى واحدٍ، الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض مع المسكين الذي لا يملِك شيئًا، إنّه تأصيلٌ لمفهوم الدين الحقّ، الدين الذي ينظر إلى التقصير بحقِّ الإنسان كالتقصير بحقِّ الله! لأنّ الدين الحقّ إنّما هو دين الرحمة
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: 107].
أمّا أولئك الذين يُكثِرون من العبادات، ويُقصِّرون في المعاملات، ويتورَّعون عن نواقض الوضوء، ولا يتورَّعون عن نواقض القِيَم، فهؤلاء ما فهِمُوا الدين، وما سلكوا طريق الناجِين، كيف والله تعالى جعل تحقير اليتيم والمسكين علامةً لمن يُكذِّب بهذا الدين؟ قال تعالى:
﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ ﴿١﴾ فَذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ ﴿٢﴾ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ [الماعون: 1- 3].
﴿فَلَیۡسَ لَهُ ٱلۡیَوۡمَ هَـٰهُنَا حَمِیمࣱ﴾ فليس له في جهنم قريبٌ يُواسِيه أو يدفع عنه.
﴿وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنۡ غِسۡلِینࣲ﴾ طعامٌ خبيثٌ يُقدَّم لأهل النار، لا يُتصوَّر بالاشتقاق اللفظي؛ لأنّه من الأخبار الغيبيَّة التي لا سبيلَ للعقل لتصوُّرها على ما هي عليه في عالم الغيب، ويكفي استحضار المقصود منها، وهو التنفير وحصول الاشمئزاز.
﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ ﴿٣٨﴾ وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ﴾ هذه صيغةٌ من صيغ القسَم المؤكّد، والمُقسَمُ به نوعان: ما يُبصرِه الناس؛ كالشمس، و
القمر، والجبال، والبحار، وما لا يُبصرونه؛ كالعرش، والكرسي، والملائكة.
﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولࣲ كَرِیمࣲ﴾ هذا هو جواب القسم، أي: المقسَم عليه، وهنا ينتقل السياق من الحديث عن الآخِرة وأهوالها إلى الحديث عن القرآن الذي هو رسالة الله الأخيرة، والذي هو طريق النجاة والفوز، والرسول الكريم هو محمّد
ﷺ، بمعنى أنّ القرآن هو هذا الذي يتلُوه عليكم الرسولُ الذي يُبلِّغكم ما يُوحَى إليه من ربِّه.
﴿وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرࣲۚ﴾ لأنّهم يعرِفون الشعر وأصوله، والقرآن لا يُمكِن أن يكون شِعرًا كما يدَّعُون ويفتَرُون، ثم لو كان شِعرًا فهم أهلُ الشِّعر، فما الذي يمنَعُهم أن يُعارِضُوه، وأن يأتوا بمِثلِه؟
﴿وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنࣲۚ﴾ فالكَهَنة موجودون ومنتشرون في طول الجزيرة وعرضها، وليس في كلامهم ما يُشبِهُ القرآن لا في أخباره، ولا في أحكامه، ولا في أسلوبه، ولا في بيانه، ثم ما الذي يمنع هؤلاء الكَهَنة أن يقبلوا التحدِّي فيأتوا بمثل هذا القرآن؟
﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَیۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِیلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡیَمِینِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِینَ﴾ هذا افتراضٌ قُصِدَ منه: تأكيد سلامة القرآن من الزيادة والنقصان، وتأكيد أمانته
ﷺ في كلِّ ما يُبلِّغه عن الله، ومعنى هذا الافتراض: أنّه لو كان الرسول - حاشاه - قد تقَوَّلَ على الله، فإنَّ الله لا يترُكه، بل سيمنَعُه ويُهلِكُه، سيأخُذُه باليمين، أي: بالقوة، وسيقطع منه الوتين، أي: يقطع نِياطَ قلبه، بمعنى أنّه يُهلِكه.
﴿فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَـٰجِزِینَ﴾ أي: ليس فيكم من سيحُول بيننا وبينه.
﴿وَإِنَّهُۥ لَحَقُّ ٱلۡیَقِینِ﴾ لأنّه من الله الحقّ الذي خلق الخلق، فهو الأعلم بخلقه، والأعلم بما يُصلحهم وينفعهم في الدنيا والآخرة.
﴿فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِیمِ﴾ أي: فنزِّه الله ـ عن كلِّ ما لا يَلِيق به، فهو العظيمُ الذي ليس فوقه عظيم.