تناولت سورة
الأعراف قصة الخلق الأولى والنموذج الأول لصراع الحقِّ والباطل؛ حيث كان آدم وحواء يواجهان إبليس في تجربة فريدة قُدِّر لها أن تؤسِّس لخط المعركة الممتدة بين الفريقَين من تلك الساعة حتى قيام الساعة.
وقد مهَّدت سورة
الأعراف بجملةٍ من الحقائق والمبادئ قبل الدخول في جوهر القصَّة:
أولًا:
﴿كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَیۡكَ فَلَا یَكُن فِی صَدۡرِكَ حَرَجࣱ مِّنۡهُ﴾ هذا الاستهلال يُوحي بأهمية القصة، ويُلقي في النفس الطمأنينة التامة بصدقها وثبوتها، كما هو الشأن في كلِّ خبرٍ أو توجيهٍ يرِدُ في هذا الكتاب العزيز، فليس في هذا القرآن إلا الصدق والعدل والحق.
ثانيًا:
﴿ٱتَّبِعُواْ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَـتَّـبِعُواْ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَۗ﴾ وهي الخطوة التالية للتصديق، فالعبرة دائمًا لا تقف عند التصديق والتوثيق، بل لا بُدَّ من العمل وإلزام النفس بمقتضى ذلك التصديق.
والإشارة هنا أن آدم وزوجه قد أُخرجا من الجنة؛ لأنهما لم يقرِنا الإيمان بالعمل، ولا التصديق بالاتِّباع؛ حيث أكَلَا من الشجرة التي نُهِيَا عن الأكل منها.
ثالثًا:
﴿وَكَم مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا فَجَاۤءَهَا بَأۡسُنَا بَیَـٰتًا أَوۡ هُمۡ قَاۤىِٕلُونَ ﴿٤﴾ فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَاۤ إِلَّاۤ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِینَ﴾ تحذيرٌ ووعيدٌ لمن أخلَّ بواحدةٍ من المقدِّمتَين المتلازمتَين؛ الإيمان والعمل، أو التصديق والاتباع، فمن كذَّب بالحقِّ فقد ظلم، ومن حادَ عنه بعلمٍ فقد ظلم، وكلاهما مستوجب الهلاك، والعياذ بالله.
رابعًا:
﴿وَٱلۡوَزۡنُ یَوۡمَىِٕذٍ ٱلۡحَقُّۚ﴾ العدل في الحساب والجزاء، وهذه هي النتيجة النهائية لسلوك الإنسان على هذه الأرض، فآدم وذريته أجمعون قد خُلقوا لهذا الاختبار والامتحان
﴿لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ﴾ وبعد ختم الأجل وغلق السجلِّ ينتظر الناس نتائج أعمالهم:
﴿فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَ ٰزِینُهُۥ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ﴿٨﴾ وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَ ٰزِینُهُۥ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُم﴾.
بعد هذه المقدِّمات يعرض القرآن لقصَّة الخلق الأولى، والدرس الأول الذي يؤصِّل لمصير البشر وانقسامهم الكلِّي، وطبيعة الصراع الدائر بين المعسكَرين؛ معسكر الإيمان والعلم والعمل الصالح، ومعسكر الكفر والجهل والعمل الظالم الآثم، ويمكن تلخيص هذه القصة والمعاني المستنبطة منها في الآتي:
أولًا: أن الخلق لله والأمر له أيضًا، فالذي يخلق هو الذي يأمر، وهذه قاعدةٌ متينةٌ في التصور الإسلامي، والتي ينبني عليها الربط بين الإيمان والعمل، وبين توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهيَّة
﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَـٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِـَٔادَمَ﴾.
وأمرُ الملائكة بالسجود استتبعه أمر آدم وحواء بالابتعاد عن الشجرة، وأمر الله لخلقه من إنسٍ وجانٍّ وملائكةٍ إنما كان بحكم أنه هو الذي خلقهم ومَنَّ عليهم بالوجود الذي هو أصلٌ لكلِّ نعمة.
ثانيًا: أن المأمورين بالسجود قد انقسموا؛ فمنهم من أطاع وهم الملائكة، ومنهم من عصى وهو إبليس
﴿فَسَجَدُوۤاْ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ لَمۡ یَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ﴾ وهذه إشارة لما سيكون عليه الناس بعد أن يأتيهم الوحي ويتنزَّل عليهم الأمر.
ثالثًا: أن المعصية قد لا يكون سببها الكفر أو الجهل، فالنفس بحاجةٍ إلى قوَّةٍ ذاتيةٍ لتنفيذ ما اقتنعت به من حقوقٍ وحقائق؛ إذ قد يَحُول بينها وبين التنفيذ عوائق الشهوة والكبر والحسد، وما إلى ذلك.
ومن هنا تأتي أهمية التزكية مع العلم، لترويض النفس على قبول الحقِّ ولو كان بخلاف ما تشتهي، وهذا الذي أوقع إبليس في المعصية مع علمه ومعرفته اليقينيَّة بالحقِّ والحقيقة
﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ﴾.
رابعًا: أما معصية آدم وحواء فكانت درسًا قدريًّا لذرِّيتهما إلى قيام الساعة أن أخطر ما يدفع الإنسان نحو المعصية إنما هو تزيينها وتسميتها بغير اسمها حتى يخادع الإنسان نفسه، ويغمض عينه ويتوهَّمها بصورة ثانية غير التي حرَّمها الله، وفي أعماق النفس شهوةٌ خفيَّةٌ للذَّةٍ عابرةٍ، أو مصلحةٍ زائلةٍ
﴿وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَا مَلَكَیۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَـٰلِدِینَ ﴿٢٠﴾ وَقَاسَمَهُمَاۤ إِنِّی لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِینَ ﴿٢١﴾ فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورࣲۚ﴾.
والإشارةُ هنا جليَّةٌ لمدى حبِّ الإنسان للملك وخوفه من الموت، وهذان يعيشان مع الإنسان ما دام فيه نفس، إلا من رَحِمَ ربُّك.
خامسًا: أنَّ المعصية تَنزِع عن الإنسان لباسَ التقوى الذي يجمِّله هيبةً ووقارًا، فيتبدَّل من حالٍ إلى حالٍ، يقسُو قلبه، وتغلظ طباعُه، ويقِلُّ حياؤه.
هذا هو شأن العصاة الذين تنكسِر هيبة الله في قلوبهم فتضيع هيبتهم، ويهتِكُون ما بينهم وبين خالقهم فيهتِك الله ما بينهم وبين الخلق، وقد كانت الصورة الحسِّيَّة في ذلك الدرس والتي تعبِّر عن كلِّ هذه المعاني أن الله نزَعَ عنهما ما كان يُواري سوءاتهما فور اقترافهما للإثم وأكلهما من الشجرة
﴿فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا یَخۡصِفَانِ عَلَیۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ﴾.
سادسًا: أنَّ المعصية ليست نهاية المطاف، فرُبَّ معصيةٍ أورَثَت ذلًّا وانكسارًا وتوبةً؛ فأفلَحَ بها صاحِبُها
﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَاۤ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ وصورة آدم وزوجه وهما يُبادِرَان إلى ورق الجنَّة ليستُرَا به سوءاتهما دليلٌ عمليٌّ على الندم والحياء، وهما من شروط التوبة، على خلاف معصية إبليس؛ حيث ابتَعَدَ بها أكثر عن كلِّ معنًى من معاني الحياء والأدب
﴿فَبِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَ ٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾ فنسب الغواية إلى الله، ثم أخذ يتوعَّد مَن أمره الله بالسجود له أن يعمل على إيقاعه في أنواع المعصية
﴿وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ﴾!
اللهم فلك الحمد ولك الشكر رغم أنفِ إبليس وما توعَّد به.
سابعًا: أن المعصية الناتجة عن كبرٍ واستعلاءٍ باطلٍ وإعجابٍ بالنفس لا تؤول في الغالب إلى الندم والتوبة، بخلاف المعصية الناتجة عن غفلةٍ أو شهوةٍ طارئةٍ، أو تضليلٍ وخداعٍ، فالأولى هي معصية إبليس، والثانية هي معصية آدم وزوجه.
ثامنًا: أن العداء بين آدم وذريَّته من ناحيةٍ، وبين إبليس وذريَّته من ناحيةٍ أخرى مُستمرٌّ على هذه الأرض إلى قيام الساعة، وهي معركة الوسوسة والتضليل وتزيِين الباطل.
وهذا هو الدرسُ الذي كان الإنسان بحاجةٍ إليه ليعرف طبيعةَ الاختبار الذي كتَبَه الله عليه في هذه الحياة
﴿ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّۖ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ ﴿٢٤﴾ قَالَ فِیهَا تَحۡیَوۡنَ وَفِیهَا تَمُوتُونَ وَمِنۡهَا تُخۡرَجُونَ﴾.