سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 103

ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِیْهِۦ فَظَلَمُواْ بِهَاۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ ﴿١٠٣﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس التاسع والستون: النبوة في مواجهة البشر


من الآية (103- 126)


بعد النماذج التي قدمتها سورة الأعراف لدعوة المرسلين في الجزيرة العربية (هود، وصالح)، ثم في بلاد الشام (لوط، وشعيب) عليهم السلام، شرعت في عرض النموذج الآخر، وهو نموذجٌ مختلفٌ تمامًا؛ فموسى عليه السلام لم يبعثه الله إلى قبيلةٍ ولا إلى قريةٍ، وإنما إلى دولةٍ وحضارةٍ ومدنيةٍ وجيوشٍ وعروشٍ.
ومن ثَمَّ اقتَضَى المقام تفصيلًا أكثر، وعرض مشاهدٍ متنوعةٍ وصورٍ مختلفةٍ لهذه التجربة من الصراع بين الرسالة السماوية وبين الدولة الفرعونية، وأولى هذه المشاهد هي استعانة فرعون بالسحرة، فكانت هذه اللقطات المثيرة:
أولًا: عرض موسى عليه السلام لقضيَّته بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ یَـٰفِرۡعَوۡنُ إِنِّی رَسُولࣱ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١٠٤﴾ حَقِیقٌ عَلَىٰۤ أَن لَّاۤ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِیَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ فهو رسولٌ من الله يبلِّغ الناسَ كلمة الحقِّ، وهو كذلك صاحب قضية تتلخَّص في إنقاذ قومه من وَطأة فرعون وظلمه، وهنا تقرن الرسالة الموسويَّة في خطوتها الأولى بين العقيدة والسياسة، وبين الإيمان والمصلحة، والدين والدنيا، وهو إيذانٌ بشموليَّة الرسالة وقيادتها للمجتمع الجديد في كلِّ نواحي حياته.
ثانيًا: فرعون يطلب من موسى أن يعرض بيِّنَتَه بعد أن عرض قضيَّتَه ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئۡتَ بِـَٔایَةࣲ فَأۡتِ بِهَاۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ ﴿١٠٦﴾ فَأَلۡقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ ثُعۡبَانࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٠٧﴾وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ﴾، وفي هذا نزولٌ للميدان الذي يُتقِنُه الفراعنة؛ ليكون فيه استدراجهم، ولتكون هزيمتهم أشدَّ وأوقَعَ؛ حيث كان المصريون قد بلغوا في السحر شأنًا رفيعًا، وكانت الصنعة التي يتداول أخبارها كلُّ الناس على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم.
ثالثًا: فرعون يختار السحرة ليُواجِه بهم النبوَّة ﴿وَأَرۡسِلۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ ﴿١١١﴾ یَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِیمࣲ ﴿١١٢﴾وَجَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرۡعَوۡنَ قَالُوۤاْ إِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴾ لقد استُدرِجَ فرعونُ بالفعل، وراحَ يستَدعِي كبار السحرة ويُرغِّبهم، ويحشد الناس من حولهم.
رابعًا: في وسط الميدان، حوار ومباراة، ثم هزيمة ساحِقة لفرعون وسحرته ﴿قَالُواْ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ ﴿١١٥﴾ قَالَ أَلۡقُواْۖ فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡاْ سَحَرُوۤاْ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَاۤءُو بِسِحۡرٍ عَظِیمࣲ ﴿١١٦﴾ ۞ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ ﴿١١٧﴾ فَوَقَعَ ٱلۡحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾.
خامسًا: السحرة يُعلِنون إيمانَهم بالله ربِّ موسى وهارون، ويكفُرُون بفرعون وملَئِه ﴿وَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ ﴿١٢٠﴾ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١٢١﴾ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
سادسًا: فرعون يهدد السحرة ويلجأ إلى منطق القوة ليواجه به منطق الحقِّ ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِینَ ﴿١٢٤﴾ قَالُوۤاْ إِنَّـاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ وهكذا ثبَتَ السحرة ولم يُبالُوا بفرعون ووعيدِه بعد أن رأَوا الحقَّ عيانًا، واكتشفوا زَيفَ الألوهيَّة الباطلة التي كان يتزيَّنُ بها فرعونُ، ويتسلَّط بها على العباد.


﴿ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ﴾ أي: بعد من تقدَّم ذكرُهم من الأنبياء؛ نوحٌ وهودٌ وصالحٌ ولوطٌ وشعيبٌ، وهو تثبيتٌ للتسلسل التاريخي.
﴿فَظَلَمُواْ بِهَاۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ إشارةٌ أنَّ الفساد مقترنٌ بالظلم، وهو نتيجةٌ من نتائجه، وثمرة سيئة من ثماره.
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ یَـٰفِرۡعَوۡنُ﴾ فيه المبادرة والشجاعة، والخطاب بالعدل دون مدحٍ ولا قدحٍ.
﴿فَأَرۡسِلۡ مَعِیَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ أطلِقْهم من نِيْر عبوديتك، واسمَح لهم بالخروج من مصر.
﴿فَإِذَا هِیَ ثُعۡبَانࣱ مُّبِینࣱ﴾ حوَّل الله عصا موسى إلى ثعبان؛ ليُرِيَ فرعون ضعفه البشري، ويهزَّ هيبته وسلطانه الباطل.
﴿وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ﴾ أي: حين أخرَجَ يدَه تحوَّلَت إلى لونٍ أبيضٍ ظاهر الحسن والوضاءة من غير سُوءٍ.
وربما يكون في هذه المعجزة إشارةٌ لطبيعة دعوة الأنبياء، فبعد أن أرهَبَ فرعون بعصاه أخرج له اليَدَ البيضاء؛ فالقوة والسلام، والترغيب والترهيب، والجنة والنار، هذه هي المقولات الإيمانيَّة التي تدفع الإنسان لتحمل مسؤوليته في خياراته وقراراته، وفيها الأساس الذي يقوم عليه أمن المجتمع وسلامة أفراده، فالقوةُ لرَدع المعتدين والمجرمين، والمكافأة للصالحين المصلحين.
﴿قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِیمࣱ﴾ هو دورُ الملأ دائمًا في رفع الحرج عن أسيادهم، فبعد أن بانَ ضعفُ فرعون وزَيف ادِّعائه للربوبيَّة والألوهيَّة بادر الملأ دون إذنٍ من فرعون ليقولوا عن الحقِّ: إنه سحر، وعن النبي: إنه ساحر، تمامًا كما يفعل قرناؤهم في كلِّ زمان، فما قال عالِمٌ كلمة حقٍّ بوجه سلطانٍ ظالمٍ إلا انبَرَى مَلَؤُه ليقذفوا صاحب الحقِّ بكلِّ نقيصةٍ وشائبةٍ.
﴿أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ﴾ اترك موسى وهارون برهةً من الزمن حتى نجمع لهما السحرة، وهو قبول بالتحدِّي، لكنه قبول فارغ يهدف إلى طمأنة فرعون والتملُّق له، وتأكيد دعواهم أن الذي جاء به موسى إنما هو السحر.
﴿وَأَرۡسِلۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ﴾ يحشرون لك السحرة من كلِّ المدن.
﴿قَالُوۤاْ إِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴾ هكذا قال السحرة لفرعون، وهو على خلاف عادة العبيد مع أسيادهم، فليس للعبد أن يشترط، ولا أن يطلب عِوَضًا عن عمله، والظاهرُ أنه نوعٌ من صناعة جوِّ الاحتفال، وإعطاء حركة من الفرح والبهجة، وهذا يُناسِبُ في العادة أجواءَ المباريات والألعاب التنافسيَّة.
﴿قَالُواْ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ ﯜقَالَ أَلۡقُواْۖ﴾خيَّرُوه إظهارًا لتمكنهم، واختارَ هو أن يبدؤوا هم أولًا؛ ليظهر للناس غاية ما عندهم، حتى إذا سقطوا كان سقوطهم أبلَغَ وأوقَعَ.
﴿فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡاْ سَحَرُوۤاْ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ﴾ دلالة أن سحرهم لم يكن حقيقةً، فهم يسحَرُون أعينَ الناس، ولا يسحَرُون حقائق الأشياء، وهذا ظاهرٌ في السحر؛ حيث يدَّعِي الساحر أنه يقلب الحجر ذهبًا، ليأخذ بذلك من الناس درهمًا، ولو كان صادقًا لاكتَفَى بالذهب.
﴿أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ﴾ تعضيد للمعنى الأول؛ فالسحر إنما هو إفكٌ وكذبٌ.
﴿وَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ﴾ تعبيرًا عن غاية استسلامهم وإذعانهم، وإيمانهم بالحقِّ الذي أظهَرَه الله أمامهم على يد موسى عليه السلام، وإيمان السحرة إظهارٌ لحجة الله على خلقه، وتمييزٌ قاطعٌ لمعجزة النبي عمَّا يلتبِسُ بها في أذهان بعض الناس من خرافةٍ وسحرٍ وشعوذةٍ.
﴿قَالَ فِرۡعَوۡنُ ءَامَنتُم بِهِۦ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ﴾ شأن الطغاة دائمًا، يتعجبون حينما يقتنع أحد من الناس بفكرة دون إذنٍ منهم؛ لأن عقول الناس وإراداتهم ينبغي أن تخضع لهم، تمامًا كما تخضع لهم أموالهم ودماؤهم وآلامهم وآمالهم، فليس للعبد مع سيده خيار ولا قرار.
﴿إِنَّ هَـٰذَا لَمَكۡرࣱ مَّكَرۡتُمُوهُ فِی ٱلۡمَدِینَةِ لِتُخۡرِجُواْ مِنۡهَاۤ أَهۡلَهَاۖ﴾ إنها المؤامرة، المؤامرة لقلب النظام وإخراج المدينة من ملك أهلها الأصليين وتسليمها للغرباء الطارئين، وهكذا فكلُّ فكرةٍ أو مقولةٍ أو مشروعٍ يخرج عن عباءة السلطان فليس له تفسير عند السلطان سوى المؤامرة، وهذه التهمة ركيزة لثقافة الانتقام المغروسة في نفوس الظالمين لكلِّ مخالفٍ لهم، أو خارجٍ عن طوعهم.
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ﴾ قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس، إمعانًا في النكاية، وليراها الناظر من كلِّ جانب.
﴿لَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ أي: يربط أجسادهم على جذوع النخل، ليجعلهم مُثلةً وعبرةً للآخرين، وهكذا تكون القرارات الفرعونيَّة بلا قضاء، ولا محاكمة، ولا فرصة للحوار أو الرد.
﴿أَفۡرِغۡ عَلَیۡنَا صَبۡرࣰا﴾ أي: أنزِل علينا صبرًا كثيرًا يُؤهِّلنا للثبات في مواجهة غضبِ فرعون وشرِّه ووعيدِه.
﴿وَتَوَفَّنَا مُسۡلِمِینَ﴾ دلالة أن دين الأنبياء واحد، وهو الإسلام.