بعد النماذج التي قدمتها سورة
الأعراف لدعوة المرسلين في الجزيرة العربية (هود، وصالح)، ثم في بلاد الشام (لوط، وشعيب)
عليهم السلام، شرعت في عرض النموذج الآخر، وهو نموذجٌ مختلفٌ تمامًا؛ فموسى
عليه السلام لم يبعثه الله إلى قبيلةٍ ولا إلى قريةٍ، وإنما إلى دولةٍ وحضارةٍ ومدنيةٍ وجيوشٍ وعروشٍ.
ومن ثَمَّ اقتَضَى المقام تفصيلًا أكثر، وعرض مشاهدٍ متنوعةٍ وصورٍ مختلفةٍ لهذه التجربة من الصراع بين الرسالة السماوية وبين الدولة الفرعونية، وأولى هذه المشاهد هي استعانة فرعون بالسحرة، فكانت هذه اللقطات المثيرة:
أولًا: عرض موسى
عليه السلام لقضيَّته بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ یَـٰفِرۡعَوۡنُ إِنِّی رَسُولࣱ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١٠٤﴾ حَقِیقٌ عَلَىٰۤ أَن لَّاۤ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِیَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ فهو رسولٌ من الله يبلِّغ الناسَ كلمة الحقِّ، وهو كذلك صاحب قضية تتلخَّص في إنقاذ قومه من وَطأة فرعون وظلمه، وهنا تقرن الرسالة الموسويَّة في خطوتها الأولى بين العقيدة والسياسة، وبين الإيمان والمصلحة، والدين والدنيا، وهو إيذانٌ بشموليَّة الرسالة وقيادتها للمجتمع الجديد في كلِّ نواحي حياته.
ثانيًا: فرعون يطلب من موسى أن يعرض بيِّنَتَه بعد أن عرض قضيَّتَه
﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئۡتَ بِـَٔایَةࣲ فَأۡتِ بِهَاۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ ﴿١٠٦﴾ فَأَلۡقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ ثُعۡبَانࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٠٧﴾وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ﴾، وفي هذا نزولٌ للميدان الذي يُتقِنُه الفراعنة؛ ليكون فيه استدراجهم، ولتكون هزيمتهم أشدَّ وأوقَعَ؛ حيث كان المصريون قد بلغوا في السحر شأنًا رفيعًا، وكانت الصنعة التي يتداول أخبارها كلُّ الناس على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم.
ثالثًا: فرعون يختار السحرة ليُواجِه بهم النبوَّة
﴿وَأَرۡسِلۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ ﴿١١١﴾ یَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِیمࣲ ﴿١١٢﴾وَجَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرۡعَوۡنَ قَالُوۤاْ إِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴾ لقد استُدرِجَ فرعونُ بالفعل، وراحَ يستَدعِي كبار السحرة ويُرغِّبهم، ويحشد الناس من حولهم.
رابعًا: في وسط الميدان، حوار ومباراة، ثم هزيمة ساحِقة لفرعون وسحرته
﴿قَالُواْ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ ﴿١١٥﴾ قَالَ أَلۡقُواْۖ فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡاْ سَحَرُوۤاْ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَاۤءُو بِسِحۡرٍ عَظِیمࣲ ﴿١١٦﴾ ۞ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ ﴿١١٧﴾ فَوَقَعَ ٱلۡحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾.
خامسًا: السحرة يُعلِنون إيمانَهم بالله ربِّ موسى وهارون، ويكفُرُون بفرعون وملَئِه
﴿وَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ ﴿١٢٠﴾ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١٢١﴾ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
سادسًا: فرعون يهدد السحرة ويلجأ إلى منطق القوة ليواجه به منطق الحقِّ
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِینَ ﴿١٢٤﴾ قَالُوۤاْ إِنَّـاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ وهكذا ثبَتَ السحرة ولم يُبالُوا بفرعون ووعيدِه بعد أن رأَوا الحقَّ عيانًا، واكتشفوا زَيفَ الألوهيَّة الباطلة التي كان يتزيَّنُ بها فرعونُ، ويتسلَّط بها على العباد.