بعد خسارة فرعون في ميدان الحجَّة والبرهان واستسلام السحرة وخروجهم عن طاعته لجأ كما يلجأ كلّ الطغاة في التاريخ إلى الأساليب الأخرى؛ المكر والقتل وكسر إرادة الناس بالقوة، وهنا بدأت المرحلة الأخيرة والحاسمة بين أهل الحقِّ بقيادة موسى عليه السلام وبين أهل الباطل بقيادة فرعون:
أولًا: دور الملأ في التأليب والتحريض ﴿وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِیُفۡسِدُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَیَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ﴾ وهم هنا إنما يدافعون عن مكاسبهم وامتيازاتهم كشأن كلِّ جماعة مقرَّبة من السلطان، لكنَّهم يستخدمون مفردات الحرص على الأرض والنظام والتراث، ويتَّهِمون أهل الحقِّ بالفساد والإفساد.
ثانيًا: الإفراط في استعمال القوة؛ لكسر إرادة الناس وإشعارهم باليأس من المقاومة ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَـٰهِرُونَ﴾.
ثالثًا: لجوء المؤمنين إلى الله الواحد القويِّ المتين، وتدرُّعهم بالصبر وطول النفَس في ظل انعدام القوة الماديَّة المكافئة لقوة فرعون ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِینُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوۤاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾، وحين يُلامس حالةً من الضعف والندامة أو الملامة ﴿قَالُوۤاْ أُوذِینَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِیَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ﴾ يقول لهم: ﴿عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَیَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾ إنه باب الأمل المعزَّز بحسن الظن بالله، مع الشعور بالمسؤوليَّة، والاستعداد للمتغيِّرات.
رابعًا: الله يستجيب دعاء نبيِّه والمستضعفين من أتباعه، فيُرسل بالنذارة تلو النذارة لفرعون وملئه لعلَّهم يتدبرون ويتعظون ﴿وَلَقَدۡ أَخَذۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ بِٱلسِّنِینَ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَذَّكَّرُونَ﴾ ثم شدَّد عليهم أكثر ﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَایَـٰتࣲ مُّفَصَّلَـٰتࣲ﴾.
خامسًا: اتسم السلوك الفرعوني بالعناد والمكابرة مع شيءٍ من الخداع والمراوغة ﴿وَقَالُواْ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِۦ مِنۡ ءَایَةࣲ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِینَ﴾ بل كانوا يحمِّلون موسى ما يجري لهم على طريقة التشاؤم؛ تنفيرًا للناس عنه ﴿وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةࣱ یَطَّیَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥۤۗ﴾.
وحينما يطول عليهم العذاب يلجئون إلى موسى ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَیۡهِمُ ٱلرِّجۡزُ قَالُواْ یَـٰمُوسَى ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَۖ لَىِٕن كَشَفۡتَ عَنَّا ٱلرِّجۡزَ لَنُؤۡمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرۡسِلَنَّ مَعَكَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ فرفع الله عنهم الرجز؛ ليقيم الحجة عليهم وهو أعلم بحالهم ومآلهم ﴿فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلرِّجۡزَ إِلَىٰۤ أَجَلٍ هُم بَـٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ یَنكُثُونَ﴾.
سادسًا: لم تكن خاتمة الصراع لصالح السطوة الفرعونيَّة، بل كانت لصالح الضعفاء المستضعفين ﴿فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡیَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَـٰفِلِینَ ﴿١٣٦﴾ وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِینَ كَانُواْ یُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۖ﴾، والقرآن هنا يذكر النقاط الحاسمة للاتعاظ والعبرة دون ذكر الوقت الذي أخذَته هذه المعركة حتى حُسِمَت بهذه النتيجة، فلعلَّها كانت سنين وعقودًا، كما هو الشأن في آجال الدول والممالك، والله أعلم.
﴿وَیَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ﴾ دليل أن فرعون كان له آلهة، ربما صنَعَها هو للناس يستعبِدهم بها؛ ولذلك قال: ﴿أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾ [النازعات: 24]. ﴿وَنَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡ﴾ نتركهم أحياءً بلا رجالٍ؛ ليكُنَّ ذليلات وخادمات له ولقومه. ﴿وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَـٰهِرُونَ﴾ فوقيَّة الاستعلاء والسلطة، وليست فوقيَّة المكان، وهو شائِعٌ في اللغة. ﴿أُوذِینَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِیَنَا﴾ بالتمييز العنصري؛ حيث كان الفراعنة يُذِلُّون بني إسرائيل ويستعبِدُونَهم، وقد قتل فرعون أبناءَهم لرؤيا رآها. ﴿وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ﴾ لمحاولة ثَنْيِهم عن اتباع الرسالة الموسويَّة، فهو اضطهادٌ دينيٌّ مضافٌ إلى الاضطهاد العنصري. ﴿بِٱلسِّنِینَ﴾ سنوات القحط وقلة المطر والزرع. ﴿فَإِذَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِۦۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةࣱ یَطَّیَّرُواْ بِمُوسَىٰ﴾ أي: إذا حصل لهم خيرٌ من خصب وزرع ونعمة قالوا: هذا حقُّنا؛ لأننا أهلٌ لكل خير. وان انقَلَبَت النعمة ألقَوا اللائمةَ على موسى،كأنه شؤمٌ لهم. ﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ﴾ أنواع من العذاب يستهدف أجسادهم كالقمَّل، أو يستهدف مزارعهم كالجراد، أو يستهدف دورهم ومساكنهم كالطوفان، وهكذا. ﴿ٱلرِّجۡزُ﴾ العذاب. ﴿ٱلۡیَمِّ﴾ البحر. ﴿وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِینَ كَانُواْ یُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۖ﴾ جنس الأرض، وليست عين الأرض التي خرج منها فرعون؛ فبنو إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد خروجهم، بل نزلوا في صحراء سيناء مرحلة التِّيْه، ثم استوطنوا فلسطين على عهد داود عليه السلام، والله أعلم.