سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 174

وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ وَلَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ ﴿١٧٤﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس الثالث والسبعون: سبيل الهداية وأسباب الضلال


من الآية (172- 188)


بعد هذا التطواف في تاريخ الدعوات وتجارب الأنبياء مع شعوبهم في الجزيرة والشام ومصر، على اختلاف تلك الشعوب في طبائعها ومستوياتها الثقافيَّة والحضاريَّة، وعاقبة المحسنين منهم والمسيئين، شرعت الأعراف في شرح سبيل الهداية وتمييزه عن أسباب الضلال، لتترك الناس أمام مسؤولياتهم فيما يختارون وما يسلكون:
أولًا: إن الإيمان هو نداء الفطرة المغروس في كينونة الإنسان، وإن الإنسان لا يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لاكتشاف هذا الغرس مهما كانت أغشية الجهالة والغفلة ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُواْ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ﴾.
ثانيًا: إن فتح منافذ المعرفة شرطٌ في الهداية والوصول إلى الحقيقة، والتحرُّر من قيود الجهل والغفلة والتقليد الأعمى ﴿لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ﴾، ﴿أَوَلَمۡ یَتَفَكَّرُواْۗ﴾، ﴿أَوَلَمۡ یَنظُرُواْ فِی مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَیۡءࣲ﴾.
ثالثًا: إن المعرفة البشريَّة لها حدودها؛ لأن وسائل البشر محدودة أيضًا، وهذه المحدودية تتناسَب مع وظيفة الإنسان على هذه الأرض، فهو يعمِّر الأرض ويفكِّر في الملكوت الأوسع من خلال آثاره في عالم الشهادة، فالشهادةُ عملٌ ومسؤوليَّةٌ، والغيبُ إيمانٌ وتأملٌ وتدبُّرٌ ﴿أَوَلَمۡ یَنظُرُواْ فِی مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَیۡءࣲ وَأَنۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ﴾، ﴿یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَیَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّیۖ لَا یُجَلِّیهَا لِوَقۡتِهَاۤ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِیكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةࣰۗ یَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِیٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾، ﴿وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ﴾.
رابعًا: إن العلم النظري من غير تزكيةٍ وتربيةٍ لا يقود إلى الهداية؛ إذ سيكون طَوع الهوى والشهوة والمصلحة الآنِيَّة ﴿وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِیۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ ءَایَـٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِینَ ﴿١٧٥﴾ وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُۥۤ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ﴾.
خامسًا: إن محور الهداية الحقَّة إنما هو التوحيد ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُواْ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ أَسۡمَـٰۤىِٕهِۦۚ﴾ فالأسماء الحسنى له وحده بمعانيها وصفاتها، وهي الشارحة والمبيِّنة لحقيقة التوحيد، وإن غير الله مهما كان شأنه لا يختلط مقامه بمقام الله ﴿قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعࣰا وَلَا ضَرًّا﴾ وإن المشرك لا يقبل له عذر ﴿أَن تَقُولُواْ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ ﴿١٧٢﴾ أَوۡ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَاۤ أَشۡرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّیَّةࣰ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ﴾.


﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ﴾ صورةٌ من صور الغيب لا يعلم كُنهَهَا وحقيقَتَها إلا الله، وإن كان المغزى منها واضحًا، وهو الإقرار الفطري بوحدانية الخالق وربوبيَّته، ولا يبعد هذا عن قوله تعالى في خلق السموات والأرض: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهࣰا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ﴾ [فصلت: 11]، فالكونُ كلُّه مخلوقٌ له ويسبح بحمده في أصل تكوينه ﴿یُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾.
والناموس الكوني الموحَّد الذي يجمع أجزاء هذا الكون كلها في نظامٍ متكامل ومتناسق شاهد على وحدانية الخالق، أما الخوضُ بلا دليلٍ من الوحي في كُنْه الغيب وذلك العالم السابق على عالم الشهادة فهو من التكلُّف الذي لا يُنتج عملًا، ولا يُوصل إلى معرفة، ويُغني عن هذا كلِّه قوله تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰا ۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ﴾ [الروم: 30].
﴿نَبَأَ ٱلَّذِیۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ ءَایَـٰتِنَا﴾ الرجل الذي تعلَّمَ الكتابَ وأصبح من علماء أهل الكتاب.
﴿فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا﴾ تنكَّر لها وابتعد عنها.
﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَـٰهُ بِهَا﴾ أي: بهذه الآيات وتلك العلوم إلى منازل الأبرار.
﴿وَلَـٰكِنَّهُۥۤ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ﴾ ركَنَ إليها والْتَصَقَ بالدنيا مُؤْثِرًا متاعها الزائل على ما عنده من العلم.
﴿إِن تَحۡمِلۡ عَلَیۡهِ یَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ یَلۡهَثۚ﴾ أي: إن زجرته أو تركته فهو في الحالَين سواء، وهو مَثَلٌ لمن تأتيه النُّذُر والمواعظ فلا يتغير ولا يتعظ، ويبقى لاهثًا وراء شهواته وملذَّاته، وهي صورة مركَّزة في العالِم الذي عنده الآيات والدلائل، فينسلخ منها ويذهب وراء الجاه والمال، يبيع دينه وعقله وأمانته، وهو حالُ كثيرٍ من ذوي العلم في كلِّ زمان، والعياذ بالله.
﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ﴾ هيَّأنا لها.
﴿لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ﴾ هي في ذاتها صالحة للفهم والبصر والسمع، لكنَّهم يعطِّلونها عن معرفة الحقِّ، ولا يستعملونها إلا في أهوائهم وشهواتهم؛ ولذلك شبَّهَهم بالأنعام.
﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ﴾ وهي أسماء توقيفيَّة ورَدَ الوحي بها مثل: الله، الرحمن، الرحيم، الغفور، الودود، وليس للمخلوق أن يخترع لخالقه اسمًا يدعوه به ولو كان معناه صحيحًا ومقبولًا، فالوقوف عند ما سمَّى الله به نفسه هو من تمام التعبُّد وحسن الأدب.
﴿وَذَرُواْ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ أَسۡمَـٰۤىِٕهِۦۚ﴾ أي: يجحدونها ويكذِّبون بها، ويدخل فيه أيضًا الاستهزاء والتشكيك والإشراك، وكل ما يُوحي بسوء الأدب وقلَّة الإجلال والتعظيم.
﴿سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَیۡثُ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ هو نوعٌ من مكر الله بالمتكبِّرين الذين يظنون أنهم يمكرون بالله وبالمؤمنين، فيُعطيهم الله ما شاءوا من نعيمٍ وجاهٍ وسلطان ثم يأخذهم وهم سادِرون في غيِّهم، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰ⁠بَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُواْ بِمَاۤ أُوتُوۤاْ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ﴾ [الأنعام: 44].
وهذه صورةٌ من صور الاستدراج، ومنه العلم الذي يؤتيه الله لبعض الناس فيصدّهم عن سماع الحقِّ من غيرهم عنادًا وتكبرًا، والمقيم على البدعة وهو فرِحٌ بها ويظنُّ أنه خيرٌ من بقيَّة الناس هو استدراجٌ كذلك، والعياذ بالله من كلِّ ذلك.
﴿وَأُمۡلِی لَهُمۡۚ إِنَّ كَیۡدِی مَتِینٌ﴾ أمدَّ لهم فيما يشتهون وأمهلهم، وهذا تفسيرٌ لمعنى الاستدراج، وفيه التأكيدُ أن الاستدراج هو من كيد الله الذي يقابل كيدهم.
﴿أَوَلَمۡ یَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ﴾ بمعنى: أنهم لو أعمَلُوا عقولهم لما اتَّهَمُوا نبيَّهم بالجنون، وهو يأتِيهم بكلِّ هذه البيِّنات، وهو الصادقُ الأمينُ في حياته وسلوكه معهم.
﴿فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ يتخبطون كما يتخبط الأعمى في الليل البهيم.
﴿أَیَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ﴾ نهايتها، كأنها المحطة التي ترسُو عندها سفينة الحياة وتتوقف.
﴿قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّیۖ﴾ تعليمٌ للعالِمِ إذا سُئِلَ عما لا يعلَمُه.
﴿لَا یُجَلِّیهَا لِوَقۡتِهَاۤ إِلَّا هُوَۚ﴾لا يُظهرها في وقتها إلا الله، كأنها حقيقة واقعة وموجودة لكنها خفية على مدارك البشر، وفيه تأكيدٌ لحتميَّة مجيئها، وإشارةٌ أن الزمن عند الله واحد، وإنما يفرق الماضي عن المستقبل بالنسبة للمخلوق ومداركه المحدودة.
﴿ثَقُلَتۡ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ ثقيلة بحقيقتها وأهوالها، وثقيلة من حيث عجز المخلوقين عن إدراكها والتنبُّؤ بها.
﴿كَأَنَّكَ حَفِیٌّ عَنۡهَاۖ﴾ كأنك تعلمها لشدة اهتمامك بمعرفة وقتها وسؤالك عنه، وأنت لست كذلك؛ لأنك تعلم أن هذا لله وحده ﴿قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ﴾.
﴿وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ﴾ فما يُصيب الإنسان من فقر ومرض وخسارة وحوادث متنوعة دليلٌ على أنه لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب، لتجنَّبَ الكثير من هذا، ولتحصَّل له الكثير من الخير، والخيرُ هنا هو خيرُ الدنيا، وكذلك السوء سوء الدنيا، أما خيرُ الآخرة فيتحصَّل بالإيمان والعمل الصالح، والرسول هو المثل الأعلى، والأسوة الحسنى.