بعد قصة آدم وما دار بينه وبين عدوِّه قبل أن يهبطوا على هذه الأرض، جاء الخطاب القرآني:
﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ﴾ وهو الخطاب المتكرر والخالد والمباشر لكلِّ آدميٍّ يعيش على هذه الأرض حتى قيام الساعة، وقد تضمَّن الخطاب جملةً من الوصايا والتوجيهات القريبة من وقائع القصة وأجوائها والدروس المستفادة منها:
أولًا: أن ستر الجسد باللباس الكاسي وحسن التجمُّل والتزيُّن به هو من مظاهر الفطرة البشرية، ومن ثَمَّ جاء الخطاب عامًّا لكلّ بني آدم
﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمۡ لِبَاسࣰا یُوَ ٰرِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ﴾، ولأهمية هذه الفطرة في حفظ كرامة الإنسان والمحافظة على نمط سلوكه العام استهدفها عدو الآدميين الأول
﴿فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِیُبۡدِیَ لَهُمَا مَا وُۥرِیَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا﴾.
وليس أدلَّ على أن هذه فطرةٌ بشريةٌ عامة من توافق البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم على عدم مواجهة بعضهم بعضًا إلا بنوعٍ من اللباس يطولُ أو يقصُر، فالعُريُ شاذٌّ ونشازٌ، ولا وجود له في بيئة الآدميِّين، وهذا التوافق توافقٌ فطريٌّ؛ إذ لا يوجَد ما يُلزِم كلَّ البشر به إلا فِطرهم.
ثانيًا: أن اللباس الذي يستر العورة هو أيضًا علامةٌ على الحشمة والاحترام والنزاهة عن أسباب الفسق والفجور، ومن هنا جاء قوله تعالى:
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةࣰ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ﴾ مباشرةً بعد قوله:
﴿یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَاۤۚ إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾.
ومن ثَمَّ فكلُّ مجتمعٍ ينزع عنه ثوب الحياء، فإنه سيكون أقرب للفاحشة، وانتهاك الأعراض، واختلاط الأنساب، بينما عقَّب بالتقوى وهي الاسم الجامع للطاعات ولكلِّ أعمال الخير على اللباس وستر الجسد
﴿لِبَاسࣰا یُوَ ٰرِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱۚ﴾ وهكذا يربط القرآن بين المظهر والمخبر، والروح والجسد، فأحكام الشريعة كلُّها تتكامل وتتناسق لصياغة الشخصية المتوازنة والمجتمع السليم.
ثالثًا: أن الحياء والستر والاحتشام علاماتٌ للنجاة والفوز بسعادة الدارَين، والعكس بالعكس، ولذا أكَّد القرآن صلة نزع اللباس بالخروج من الجنَّة:
﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ لَا یَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ كَمَاۤ أَخۡرَجَ أَبَوَیۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾.
والخطاب لبني آدم وهم لم يحضروا تلك القصة أصلًا فيه تحذيرٌ لا يخفَى أن من نزع ثوب الحياء في الدنيا لا يكون جديرًا بدخول الجنة في الآخرة، والله أعلم.
رابعًا: أن الزينةَ أمرٌ مُحبَّبٌ شرعًا وهو مكمِّلٌ للفِطرة أيضًا
﴿۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ﴾،
﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمۡ لِبَاسࣰا یُوَ ٰرِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ﴾ وعطف الريش على اللباس فيه إضافة التزيُّن برقيق الثياب، وجميل ألوانها استعارة من ريش الطيور المزيَّنة بألوانها المُتناسِقة الباهية.
ثم أكَّد هذا المعنى بأسلوبٍ استنكاريٍّ على من توهَّم أن التديُّن يقتَضِي إهمال الزينة
﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِینَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِیۤ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ﴾.
خامسًا: أن زينة اللباس مثلها مثل طيبات الرزق، فهي كلُّها نِعَم يسَّرَها الله لهذا الإنسان، فالتزيُّن والتطيُّب والتنعُّم كلُّ ذلك مُتاحٌ ومرغَّبٌ فيه، وهو من تمام شكره تعالى، فنِعمة المنعم الكريم لا تُردُّ ولا يُزهَد فيها، وقد امتنَّ الله على عباده بهذه النعم وذكرها في كتابه، فكيف يصح بعد هذا التنكُّر لها، أو الترفُّع عنها؟
إن العبوديَّة الحقَّة أن تقبل هديَّة الله إليك، ثم لا تستعملها إلا بما أوصاك به:
﴿۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوۤاْۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ ﴿٣١﴾ قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِینَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِیۤ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّیِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ﴾.
سادسًا: أن منهج الإسلام في
التحريم يقوم على دفع المفاسد بكلِّ أنواعها، وليس التحجير على الخلق، والتضييق في حياتهم وعلاقاتهم، وهذا هو التديُّن السليم
﴿قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّیَ ٱلۡفَوَ ٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡیَ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُون﴾.
سابعًا: بعد هذا البيان وهذه الأسس العمليَّة الواضِحة والمُنسَجِمة مع فِطرة الإنسان وإمكانيَّاته، فإن الناس أحرارٌ في خياراتهم وهم يتحمَّلُون بعد ذلك كامل مسؤولياتهم
﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ إِمَّا یَأۡتِیَنَّكُمۡ رُسُلࣱ مِّنكُمۡ یَقُصُّونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِی فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ ﴿٣٥﴾وَٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَاۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾.