سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 28

وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةࣰ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَـاۤءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ﴿٢٨﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس الرابع والستون: يا بني آدم .. خطاب الإنسانيَّة والفطرة


من الآية (26- 36)


بعد قصة آدم وما دار بينه وبين عدوِّه قبل أن يهبطوا على هذه الأرض، جاء الخطاب القرآني: ﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ﴾ وهو الخطاب المتكرر والخالد والمباشر لكلِّ آدميٍّ يعيش على هذه الأرض حتى قيام الساعة، وقد تضمَّن الخطاب جملةً من الوصايا والتوجيهات القريبة من وقائع القصة وأجوائها والدروس المستفادة منها:
أولًا: أن ستر الجسد باللباس الكاسي وحسن التجمُّل والتزيُّن به هو من مظاهر الفطرة البشرية، ومن ثَمَّ جاء الخطاب عامًّا لكلّ بني آدم ﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمۡ لِبَاسࣰا یُوَ ٰ⁠رِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ﴾، ولأهمية هذه الفطرة في حفظ كرامة الإنسان والمحافظة على نمط سلوكه العام استهدفها عدو الآدميين الأول ﴿فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِیُبۡدِیَ لَهُمَا مَا وُۥرِیَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا﴾.
وليس أدلَّ على أن هذه فطرةٌ بشريةٌ عامة من توافق البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم على عدم مواجهة بعضهم بعضًا إلا بنوعٍ من اللباس يطولُ أو يقصُر، فالعُريُ شاذٌّ ونشازٌ، ولا وجود له في بيئة الآدميِّين، وهذا التوافق توافقٌ فطريٌّ؛ إذ لا يوجَد ما يُلزِم كلَّ البشر به إلا فِطرهم.
ثانيًا: أن اللباس الذي يستر العورة هو أيضًا علامةٌ على الحشمة والاحترام والنزاهة عن أسباب الفسق والفجور، ومن هنا جاء قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةࣰ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ﴾ مباشرةً بعد قوله: ﴿یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَاۤۚ إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾.
ومن ثَمَّ فكلُّ مجتمعٍ ينزع عنه ثوب الحياء، فإنه سيكون أقرب للفاحشة، وانتهاك الأعراض، واختلاط الأنساب، بينما عقَّب بالتقوى وهي الاسم الجامع للطاعات ولكلِّ أعمال الخير على اللباس وستر الجسد ﴿لِبَاسࣰا یُوَ ٰ⁠رِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱۚ﴾ وهكذا يربط القرآن بين المظهر والمخبر، والروح والجسد، فأحكام الشريعة كلُّها تتكامل وتتناسق لصياغة الشخصية المتوازنة والمجتمع السليم.
ثالثًا: أن الحياء والستر والاحتشام علاماتٌ للنجاة والفوز بسعادة الدارَين، والعكس بالعكس، ولذا أكَّد القرآن صلة نزع اللباس بالخروج من الجنَّة: ﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ لَا یَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ كَمَاۤ أَخۡرَجَ أَبَوَیۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾.
والخطاب لبني آدم وهم لم يحضروا تلك القصة أصلًا فيه تحذيرٌ لا يخفَى أن من نزع ثوب الحياء في الدنيا لا يكون جديرًا بدخول الجنة في الآخرة، والله أعلم.
رابعًا: أن الزينةَ أمرٌ مُحبَّبٌ شرعًا وهو مكمِّلٌ للفِطرة أيضًا ﴿۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ﴾، ﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمۡ لِبَاسࣰا یُوَ ٰ⁠رِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ﴾ وعطف الريش على اللباس فيه إضافة التزيُّن برقيق الثياب، وجميل ألوانها استعارة من ريش الطيور المزيَّنة بألوانها المُتناسِقة الباهية.
ثم أكَّد هذا المعنى بأسلوبٍ استنكاريٍّ على من توهَّم أن التديُّن يقتَضِي إهمال الزينة ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِینَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِیۤ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ﴾.
خامسًا: أن زينة اللباس مثلها مثل طيبات الرزق، فهي كلُّها نِعَم يسَّرَها الله لهذا الإنسان، فالتزيُّن والتطيُّب والتنعُّم كلُّ ذلك مُتاحٌ ومرغَّبٌ فيه، وهو من تمام شكره تعالى، فنِعمة المنعم الكريم لا تُردُّ ولا يُزهَد فيها، وقد امتنَّ الله على عباده بهذه النعم وذكرها في كتابه، فكيف يصح بعد هذا التنكُّر لها، أو الترفُّع عنها؟
إن العبوديَّة الحقَّة أن تقبل هديَّة الله إليك، ثم لا تستعملها إلا بما أوصاك به: ﴿۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوۤاْۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ ﴿٣١﴾ قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِینَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِیۤ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّیِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ﴾.
سادسًا: أن منهج الإسلام في التحريم يقوم على دفع المفاسد بكلِّ أنواعها، وليس التحجير على الخلق، والتضييق في حياتهم وعلاقاتهم، وهذا هو التديُّن السليم ﴿قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّیَ ٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡیَ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُون﴾.
سابعًا: بعد هذا البيان وهذه الأسس العمليَّة الواضِحة والمُنسَجِمة مع فِطرة الإنسان وإمكانيَّاته، فإن الناس أحرارٌ في خياراتهم وهم يتحمَّلُون بعد ذلك كامل مسؤولياتهم ﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ إِمَّا یَأۡتِیَنَّكُمۡ رُسُلࣱ مِّنكُمۡ یَقُصُّونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِی فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ ﴿٣٥﴾وَٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَاۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾.


﴿لِبَاسࣰا یُوَ ٰ⁠رِی سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ﴾ ذكر الضروريَّ والتحسينيَّ، فالضروريُّ سَترُ السوءة، والتحسينيُّ ما يتفاوت فيه الناس من نعيم وزينة، والريش مأخوذٌ من ريش الطائر نعومةً في الملمس، وتنسيقًا في اللون، وجمالًا في الهيئة.
﴿وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱۚ﴾ قرَنَ زينة الجسد بزينة الروح؛ ليجمَع كمال الظاهر بكمال الباطن، والخير مطلق في كلِّ عملٍ وسلوكٍ حسنٍ، وأشار باللباس إلى معنى التقوى الشاملة والملازمة كملازمة الثوب للجسد، وكماله في الستر.
﴿إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ﴾ مفاد هذا الإخبار مع أنه معلوم أن عداوة الشيطان لبني آدم إنما تعتَمِدُ الوسوسة وتزيين الباطل، وليس من قَبِيل العداوة التي يعرفها البشر فيما بينهم.
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةࣰ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا﴾ سببان للضلال؛ تقليد الآباء على ما هم عليه بلا تبيُّن ولا بصيرة، واتباع الأديان المحرَّفة الباطلة، والفتاوى الكاذبة المخالفة للنهج الرباني الصحيح.
﴿قُلۡ أَمَرَ رَبِّی بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ كلُّ أمر الله يقوم على هذا، العدل في كلِّ شيء، وبين كلِّ الخصوم والفرقاء، وكلُّ ما خالف العدل فليس من أمر الله في شيء.
﴿وَأَقِیمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ﴾ الاستقامةُ والوضوحُ في تنفيذ أمره ونَهيِه سبحانه، وإعمار مساجد الله بتعهُّدها وملازمتها «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ».
﴿وَیَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ﴾ تقليدًا لآبائهم، أو تقديسًا لأحبارهم ومراجعهم، ولولا هؤلاء وأولئك ما تمكَّن الشيطان من تزيين هذا الباطل حتى ظنَّ أهلُه بأنفسهم أنهم على الهداية.
﴿كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ﴾ كما خلقكم أوَّل مرة من غير علمٍ منكم، ولا رأيٍ، ولا مشورةٍ، فكذلك تعودُون إلى حياتكم الثانية.
﴿۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ﴾ خاطَبَ المؤمنين المكلَّفين وحدهم بعمارة المساجد بـ ﴿۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ﴾ إشارة إلى أن موضع الخطاب - وهو أخذ الزينة - لا يخصُّ المؤمنين دون غيرهم، بل هي الفطرة البشريَّة العامة، وفيه ردٌّ على من زعَمَ أن المسجد مكانٌ للدين والآخرة بعيدًا عن الدنيا وزينتها ومتاعها.
﴿وَلَا تُسۡرِفُوۤاْۚ﴾ المبالغة في الأكل والشرب والتزيُّن يضُرُّ بالإنسان في روحه وجسده وماله، وفي علاقاته مع إخوانه أيضًا، فالمبالغة تعنِي الطبَقِيَّة البغيضة، والتقاطع والتحاسد، ومن ثَمَّ كان توفير الزائِد عن حدِّ الحاجة، والتنعُّم المقبول لاحتمالات المستقبل ولمساعدة المحتاجين والمعوزين أَولَى وأليَق.
﴿قُلۡ هِیَ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا خَالِصَةࣰ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ﴾ تأكيدٌ لمنهج الإسلام في الجمع بين الدنيا والآخرة، فالنعيمُ في الدنيا للذين آمنوا لا يمنعهم التديُّن عنه، ولا يمكن أن يكون حِكرًا على أهل الدنيا الغافلين عن آخرتهم، أما في الآخرة فإن النعيم خاصٌّ بالمؤمنين، فالإيمان وفق المنهج القرآني سببٌ للجَمع بين السعادَتَين الدنيوية والأخروية.
﴿وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡیَ﴾ الأول ذاتيٌّ غير مُتعدٍّ؛ كشرب الخمر، والتهاون في الصوم والصلاة، والثاني مُتعدٍّ على حقوق الآخرين، فهو إثمٌ مركَّبٌ؛ لأنه معصيةٌ لله، وعدوانٌ على خلقه.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلࣱۖ﴾ أي: لكلِّ أمة مكذِّبة بالرسل مُهلة للتفكُّر والتراجع، وإعلان التوبة، ﴿فَإِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ لَا یَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾، وليس هذا عامًّا في كلِّ الأمم؛ لأن هلاكَ الأمم لا يكون بأجلٍ واحدٍ لكلِّ أفرادهم، فلكلِّ فردٍ أجله، إلا إذا حُمِل على معنى الدولة والسلطان، فلكلِّ دولةٍ نهايةٌ، فهذا حقٌّ من حيث هو، لكن السياق لا يقتَضِيه، والله أعلم.
﴿یَقُصُّونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِی﴾ يتلُونها عليكم تِباعًا آيةً بعد آية لتتفقَّهوا وتتدبَّروا، وفيه إشارة إلى تناسق الآيات وتسلسل معانيها، وانسجامها كما تتسلسل أحداث القصَّة الواحدة.