سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 55

ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةًۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ ﴿٥٥﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس السادس والستون: دعوة المرسلين من محمد إلى نوح


من الآية (52- 64)


بعد قصة آدم وما فيها من دروسٍ ومعالم أساسٍ لطبيعة الحياة ومغزاها على هذه الأرض، وما ينتظر الناس من بعثٍ ونشورٍ، وثوابٍ وعقابٍ، شرَعَ القرآن في بيان طريق النجاة، وأنه لن يكون بغير الوحي الإلهي الذي أنزَلَه الله واختارَ له خيرة خلقه.
وكان من المناسب البدء بالرسالة التي هي مدار البحث والصراع الحالي، وهي رسالة سيدنا ونبينا محمد قبل البدء بالتسلسل التاريخي للرسالات، ومن ثَمَّ جاء الحديث عن رسالة سيدنا نوح مباشرةً عقِب الحديث عن رسالة سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام وكما يأتي:
أولًا: أن الرسالة الخاتمة هي رسالة العلم والهدى والرحمة ﴿وَلَقَدۡ جِئۡنَـٰهُم بِكِتَـٰبࣲ فَصَّلۡنَـٰهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ هُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ﴾.
ثانيًا: أن كلَّ ما وعد به القرآن أو توعَّد به فهو الصدق والحق ﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِیلَهُۥۚ یَوۡمَ یَأۡتِی تَأۡوِیلُهُۥ یَقُولُ ٱلَّذِینَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ﴾.
ثالثًا: أن الذين يصدُّون عن هذا القرآن ستأكلهم الحسرة، ويُهلكهم الندم ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاۤءَ فَیَشۡفَعُواْ لَنَاۤ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَیۡرَ ٱلَّذِی كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ﴾.
رابعًا: أن الله هو الذي خلق هذا الكون وأودع فيه كلَّ ما يحتاجه الإنسان ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾، ﴿وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَ ٰ⁠تِۭ بِأَمۡرِهِۦۤۗ﴾، ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَقَلَّتۡ سَحَابࣰا ثِقَالࣰا سُقۡنَـٰهُ لِبَلَدࣲ مَّیِّتࣲ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَاۤءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِۚ﴾.
خامسًا: أن إفراد الله في العبادة فرعٌ عن تفرُّده في الخلق، فلأنه خلق الخلق بلا مُعينٍ أو شريكٍ فهو المستحق للطاعة والعبادة والخضوع لأمره ونهيه بلا وسيطٍ، ولا شريكٍ ﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ﴾، ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةًۚ﴾.
سادسًا: أن هذه العبادة مرتبطة بإصلاح الأرض وتحسين ظروف الحياة، وليس العكس ﴿وَلَا تُفۡسِدُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾.
بعد هذه المعالم الأساس في دعوة سيدنا محمد رجع القرآن مباشرةً إلى رسالة نوح عليه السلام وتجربته مع قومه، مختصرًا الأجيال والآماد، في تأكيدٍ واضحٍ على وحدة الرسالات السماوية في مصدرها وغايتها، وأصولها الإيمانية والعملية:
أولًا: التوحيد أساس الدعوة ومنطلقها الأول ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۤ﴾.
ثانيًا: العلم قرين الدعوة، وضمانة استقامتها وسلامتها ﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ لَیۡسَ بِی ضَلَـٰلَةࣱ وَلَـٰكِنِّی رَسُولࣱ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، ﴿وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾.
ثالثًا: محبَّةُ الخير للناس، ونُصحهم والخوف عليهم تلك هي دوافع الدعوة الذاتية ﴿أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ﴾، ﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّی وَأَنصَحُ لَكُمۡ﴾، ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾.
رابعًا: أن العاقبة لمن آمن وصدَّق، والهلاك والبوار لمن كذَّب وتكبَّر ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِینَ﴾.


﴿وَلَقَدۡ جِئۡنَـٰهُم بِكِتَـٰبࣲ فَصَّلۡنَـٰهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ هُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ﴾ هو القرآن الكريم، فيه تفصيل الأخبار والأحكام، وفيه العلم اليقيني، والهدى للبشريَّة، والرحمة الشاملة التامة لهم.
﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِیلَهُۥۚ﴾ أي: تحقيق ما أخبر به القرآن عن الآخرة وأحوالها، فالتأويل هنا من المآل، وهو العاقبة والنتيجة.
﴿قَدۡ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ﴾ تأكيدٌ أن سبب كلِّ ضلالٍ هو خسارة الإنسان لنفسه، وهبوطه بها إلى درك الأنعام، فلا يفكِّر ولا يبحث عن الحقيقة، ولا يسعى إلى الحقِّ؛ لأنه مُنشغِلٌ بملذَّاته الدنيويَّة، وشهواته الجسديَّة، فهذه خسارةٌ لقيمة النفس التي كرَّمَها الله، ثم هي خسارةٌ كاملةٌ حينما يقودُ هذا الهبوط وهذا الخسران إلى ذلك الخسران الأكبر، أعاذَنَا الله من هذا وذاك.
﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ﴾ هي ليست من أيامنا؛ لأن يومَنا هو حصيلةُ دوران الأرض حول نفسِها أمام الشمس، ولكلِّ كوكبٍ يومه، فكيف باليوم الذي كان قبل خلق السموات والأرض؟ فذلك لا يعلمه إلا الله.
والمقصود بالإخبار عن تلك الأيام إنما هو التقديرُ على مراحل كما هي سنَّة الخلق كلِّه، حتى الجنين في بطن أمه، والبذرة في بطن التربة، وفيه أيضًا بيان المساحة الأوسع التي يجهلها الإنسان في هذا الكون من بداية انبثاقه، فعلم الإنسان مهما بلغ فهو علمٌ محدود.
﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ﴾ علا عليه علوًّا يليق به سبحانه؛ إذ العرش مخلوقٌ وربِّي خالقٌ، والمخلوق لا ينفكُّ محتاجًا إلى خالقه، وليس الخالق محتاجًا إلى أحدٍ من خلقه، تبارك ربُّنا وتعالى.
﴿یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَ یَطۡلُبُهُۥ حَثِیثࣰا﴾ يغطِّي النهار بالليل، وفيه علوُّ الظلمة على الضوء؛ لأن الضوء له سببٌ، والظلمة ليس لها سببٌ فهي الأصل؛ ولذلك فكلُّ ضوء نراه إنما هو استثناءٌ من حالة الظلام العامة، فالظلام يغشَى الضياء من كلِّ جانبٍ، ثم هو يطلبه حثيثًا؛ لأنه كلما انسحب الضوء بانسحاب مصدره، أو بانسحاب بقعة الضوء عن مصدرها حلَّ الظلام محلَّه، فهو يتبَعه كأنه طالب له يتعقَّبُه أينما ذهب.
﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ﴾ أصلٌ في التوحيد، جامعٌ بين توحيده تعالى في الخلق، وتوحيده في الأمر وهو الحكم، فما أحلَّه فهو الحلال الحقُّ، وما حرَّمه فهو الحرام الحقُّ، ومن نازع الله في هذا وذاك فقد نازَعَه في حكمه، وخصائص ألوهيَّته.
﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةًۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ﴾ ادعُوه تذلُّلًا وسرًّا، والله لا يحبُّ المعتدين الذين يتكبَّرون على الله فلا يدعونه ولا يعبدونه، أو يعتدون على المؤمنين بمنعهم من الدعاء والعبادة، وربما يتناول المعتدين بالدعاء نفسه إذا كان ليس على سبيل الطاعة والخضوع لله، كالدعاء للظالمين، أو الدعاء على المظلومين نفاقًا وتملُّقًا لأهل الباطل، أما رفعُ الصوت بالدعاء فلا يدخل في هذا النهيِ بوَجهٍ، والله أعلم.
﴿وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ إشارةٌ أن الدعاء المستجاب هو دعاء المحسن في دعائه وفي عمله، بخلاف المُسِيء في دعائه، أو المُتمنِّي على الله فيدعُوه بلا عملٍ ولا سلوكٍ حسنٍ.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَقَلَّتۡ سَحَابࣰا ثِقَالࣰا﴾ أي: الرياح هي التي تحمل السحاب الثقيل المحمَّل بالماء، وفيه تبيينٌ لمعنى الماء النازل من السماء الذي ورَدَ في آياتٍ أُخر، فالسماء هنا المكان المرتفع وليس من السموات السبع، فالسحاب نراه قريبًا، وقد نعلو فوقه بالطائرات وببعض الأبراج العالية والجبال الشاهقة، فهو أقربُ إلى الأرض منه إلى السماء.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ أي: كما تشاهدون انبِثاق الحياة في بذور النبات وفي خلايا الفطر المبثوثة في التراب، والتي قد تمرُّ عليه السنة والسنتان دون نموٍّ ولا حركةٍ، فإذا نزل الماء رَبَت ونَمَت ودبَّت فيها الحياة، فكذاك حال الأجساد البشريَّة المختلطة بعد موتها بهذا التراب، هناك يوم ستتهيَّأ فيه أسباب الحياة فتَحيَا، لفت لأنظار الناس لقياس الغائب بالحاضر، وغير المحسوس بالمحسوس.
﴿وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّیِّبُ یَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِی خَبُثَ لَا یَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدࣰاۚ﴾ فالمُزْنُ لا ينبت الزرع دون وجود التربة الصالحة، وفيه تشبيهٌ ضمنيٌّ لحالة البشر مع نزول الوحي، فالقلوب الطيبة تتلقَّاه وتؤمن به، وتعمل بمقتضاه؛ فتثمر كلَّ خُلقٍ وسلوكٍ طيبٍ، والنفوس الخبيثة ترفضه وتزداد معه عنادًا وتكبُّرًا، فلا تُثمر غير النكد والشقاء.
﴿مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۤ﴾ وإن اتخذتم آلهةً أخرى؛ لأن كلَّ إلهٍ اتخذتموه دون الله فهو باطلٌ.
﴿قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِهِۦۤ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ ﴿٦٠﴾ قَالَ یَـٰقَوۡمِ لَیۡسَ بِی ضَلَـٰلَةࣱ﴾ تواضع الأنبياء، ونزولهم إلى مستوى ردِّ الشبهات الوضيعة، بخلاف ما يظنُّه بعض العلماء والدعاة اليوم، فالشبهة مهما كانت وضيعة ومتهافتة لا بُدَّ من نفيها ودحضها؛ لأن مستويات الناس متفاوتة، فالشبهة التي لا تخدع العالم قد تخدع الجاهل.
﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّی﴾ مع أنها رسالة واحدة، لكنها من حيث التدرُّج والتنوُّع والتفصيل كأنها رسالات، وفيه إشارة إلى دقَّة التبليغ، وأمانة المبلِّغ.
﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ﴾ من الطوفان، وفيه اقتران القدر بالسبب، فالطوفان قدرٌ إلهيٌّ، والفلك صنعٌ بشريٌّ، وهذا هو منهج الإسلام: إيمانٌ بالقدر، وأخذٌ بالسبب، والفصل بينهما بدعةٌ لا تمُتُّ إلى الإسلام بوَصلٍ.
﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِینَ﴾ جمع عَمٍ، وهو بمعنى أعمى، والمقصود به:عمى القلب، وفيه إشارةٌ إلى وجوب النظر والبحث والتفكُّر.