وهما نموذجٌ آخر مختلف عن سابقه، حيث كان مبعثهما في نواحي الشام، وهي الأقرب للمدنيَّة بخلاف قوم هودٍ وصالحٍ، فطبيعةُ المدينة مختلفةٌ عن طبيعة البادِية، وأمراض المجتمعات المدنية مختلفة بالضرورة عن أمراض المجتمعات البدوية؛ أما لوط فكان ممن عاصَرَ إبراهيم
عليهما السلام وآمَنَ به ثم بعثه الله إلى سدومٍ وما حولها من القرى في بلاد الشام.
وأما شعيب
عليه السلام فبُعِث في أرض مدين وهي من بلاد الشام كذلك، ومن ثَمَّ يعرض هذا النموذج لتجربةٍ إصلاحيةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن تجربة النبيَّيْن السابِقَين، ولنبدأ مع سيدنا لوط
عليه السلام:
أولًا: القضية المركزيَّة في هذه التجربة كانت مُحاربة الشذوذ الجنسي، والذي هو مظهرٌ صارِخٌ للهبوط في كلِّ الجوانب الإنسانيَّة الثقافيَّة والسلوكيَّة
﴿وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدࣲ مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٨٠﴾ إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنِّسَاۤءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمࣱ مُّسۡرِفُونَ﴾.
والإسراف هنا: مجاوزة الحد والحقِّ بإطلاق، فهم قد تجاوَزُوا الفطرةَ والدينَ والعقلَ وكلَّ معنًى متصلٍ بالسلوك القويم.
ثانيًا: لم ينشغل هؤلاء بالردِّ ولا بالمناقشة وطلب الآيات والبيِّنات، كما هو المعهود في باقي الأمم، وإنما بادروا بقرارٍ واحدٍ:
﴿أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ﴾، فهم لا يريدون أحدًا يُعكِّر عليهم ما هم فيه منغمِسُون، وهذا دَيدَنُ الغارق في الشهوة، بخلاف صاحب الشبهة والفكرة الخاطئة.
ثالثًا: ثم كانت النتيجة أن أهلَكَهم الله بعد أن نجَّى لوطًا ومن آمن به
﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ ﴿٨٣﴾ فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾.
أما قصة شعيبٍ مع قومه فتتلخَّص في الآتي:
أولًا: أنه بدأ بدعوتهم إلى التوحيد كسائر الأنبياء مع أقوامهم
﴿وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥ ۖ﴾.
ثانيًا: ثم ثنَّى بقضيَّةٍ مركزيَّةٍ خاصة في هؤلاء القوم
﴿فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ﴾ منبِّهًا أن هذا الظلم يقود إلى فسادٍ عريضٍ في الأرض
﴿وَلَا تُفۡسِدُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَاۚ﴾.
ثالثًا: ثم ثلَّثَ بدعوتهم إلى ترك الناس وما يختارون بلا ظلمٍ ولا إكراهٍ
﴿وَلَا تَقۡعُدُواْ بِكُلِّ صِرَ ٰطࣲ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجࣰاۚ﴾.
رابعًا: أن الناس قد انقسموا إلى طائفتين اثنتين:
﴿وَإِن كَانَ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنكُمۡ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِیۤ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَطَاۤىِٕفَةࣱ لَّمۡ یُؤۡمِنُواْ فَٱصۡبِرُواْ حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَیۡنَنَاۚ﴾.
وكان بين الطائفتين كلامٌ وأخذٌ وردٌّ، يحاول أهل الباطل فيه أن يُثنُوا أهلَ الحقِّ
﴿لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ ﴿٨٨﴾ قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ﴾.
خامسًا: كتَبَ الله على هؤلاء المكذِّبِين الهلاك كما كتبه على المكذِّبِين من كلِّ قومٍ
﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِی دَارِهِمۡ جَـٰثِمِینَ ﴿٩١﴾ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ شُعَیۡبࣰا كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡاْ فِیهَاۚ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ شُعَیۡبࣰا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾.
تعقيب قرآني
بعد أن عرض القرآن لهذه النماذج المختلفة خلص إلى تقرير القواعد والتوجيهات الكليَّة، وكأنها خلاصة ما ينبغي استِنباطه من تلك التجارب:
أولًا: أنه تعالى لم يُهلِك قومًا إلا بعد أن أقام الحجَّة عليهم بإرسال الرسل وبيان الحقِّ
﴿تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤىِٕهَاۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَمَا كَانُواْ لِیُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَ ٰلِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
ثانيًا: أنه تعالى لم يأخذ قومًا على غرَّة، بل جاءهم بما يكفي للتذكُّر والتدبُّر
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِی قَرۡیَةࣲ مِّن نَّبِیٍّ إِلَّاۤ أَخَذۡنَاۤ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَضَّرَّعُونَ﴾ ثم يعفُو ويصفح، ويبدِّل الحسنة مكان السيئة، والرخاء مكان الشدَّة، لعلَّ الذي لم تُرجِعه الشدة أن تُرجِعه النعمة
﴿ثُمَّ بَدَّلۡنَا مَكَانَ ٱلسَّیِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَاۤءَنَا ٱلضَّرَّاۤءُ وَٱلسَّرَّاۤءُ فَأَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾.
ثالثًا: أن العذاب والضنك والشقاء قرين الظلم والبغي والتكذيب بالحق، والعكس بالعكس
﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ﴾.
رابعًا: أن هذه العاقبة سنّةٌ من سنن الله لا تستثني أحدًا، وأن وعيد الله قائمٌ لكلِّ ظالمٍ متجبّرٍ كَفّارٍ إلى قيام الساعة، فليست هذه قصصًا تاريخيّةً مجرّدةً، بل هي سنّةٌ ماضيةٌ حتى يرث الله الأرض ومن عليها
﴿أَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰۤ أَن یَأۡتِیَهُم بَأۡسُنَا بَیَـٰتࣰا وَهُمۡ نَاۤىِٕمُونَ ﴿٩٧﴾ أَوَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰۤ أَن یَأۡتِیَهُم بَأۡسُنَا ضُحࣰى وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ ﴿٩٨﴾ أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾.
خامسًا: أن السلوك الأغلب لعامة البشر وفق كلّ هذا التاريخ الطويل يؤكِّد انحياز الناس إلى شهواتهم وموروثاتهم، والرغبة في إبقاء ما كان على ما كان دون التأكُّد من صحة الفكرة، أو سلامة السلوك، هذا هو شأنُ المجتمعات البشرية، وهو سبب التخلُّف الذي يَعتَرِيها وتكرار مآسِيها وتجاربها الفاشِلة أو القاتِلة
﴿وَمَا وَجَدۡنَا لِأَكۡثَرِهِم مِّنۡ عَهۡدࣲۖ وَإِن وَجَدۡنَاۤ أَكۡثَرَهُمۡ لَفَـٰسِقِینَ﴾.
يجدر التنبُّه هنا أن بدايات الدعوة كما يقصُّها القرآن في هذه النماذج لم تكن واحدة؛ ففي قصة نوحٍ وهودٍ وصالحٍ كانت الدعوة خالصة إلى التوحيد، بينما في قصة لوطٍ كانت الدعوة لمحاربة الفساد الخُلقي، وكأنها غاية الرسالة ومحورها الأساس.
أما في قصَّة شعيب فهناك جمعٌ واضحٌ من البداية بين الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى رفع الظلم الاقتصادي.
وهذه كلُّها تُعطِي خياراتٍ واسعةً للعمل الإسلامي المعاصر، فقد يكون الباب الأنسَب للدخول في الإسلام ما يَمَسُّ حاجةَ الناس واهتمامهم، وليس بالضرورة أن يكون في مسائل العقيدة والتوحيد والإيمان بالغيب، كما أن فتح منافذ التفكير ورفع قيود الشهوة، والتخفيف من وطأة الظلم كلُّ هذه شروط متقدمة وممهدة لنجاح الدعوة، وصناعة بيئة مناسبة للموعظة، و
المجادلة الهادفة.