سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 85

وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥ ۖ قَدۡ جَاۤءَتۡكُم بَیِّنَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَاۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿٨٥﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس الثامن والستون: لوط وشعيب


من الآية (80- 102)


وهما نموذجٌ آخر مختلف عن سابقه، حيث كان مبعثهما في نواحي الشام، وهي الأقرب للمدنيَّة بخلاف قوم هودٍ وصالحٍ، فطبيعةُ المدينة مختلفةٌ عن طبيعة البادِية، وأمراض المجتمعات المدنية مختلفة بالضرورة عن أمراض المجتمعات البدوية؛ أما لوط فكان ممن عاصَرَ إبراهيم عليهما السلام وآمَنَ به ثم بعثه الله إلى سدومٍ وما حولها من القرى في بلاد الشام.
وأما شعيب عليه السلام فبُعِث في أرض مدين وهي من بلاد الشام كذلك، ومن ثَمَّ يعرض هذا النموذج لتجربةٍ إصلاحيةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن تجربة النبيَّيْن السابِقَين، ولنبدأ مع سيدنا لوط عليه السلام:
أولًا: القضية المركزيَّة في هذه التجربة كانت مُحاربة الشذوذ الجنسي، والذي هو مظهرٌ صارِخٌ للهبوط في كلِّ الجوانب الإنسانيَّة الثقافيَّة والسلوكيَّة ﴿وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدࣲ مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٨٠﴾ إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنِّسَاۤءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمࣱ مُّسۡرِفُونَ﴾.
والإسراف هنا: مجاوزة الحد والحقِّ بإطلاق، فهم قد تجاوَزُوا الفطرةَ والدينَ والعقلَ وكلَّ معنًى متصلٍ بالسلوك القويم.
ثانيًا: لم ينشغل هؤلاء بالردِّ ولا بالمناقشة وطلب الآيات والبيِّنات، كما هو المعهود في باقي الأمم، وإنما بادروا بقرارٍ واحدٍ: ﴿أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ﴾، فهم لا يريدون أحدًا يُعكِّر عليهم ما هم فيه منغمِسُون، وهذا دَيدَنُ الغارق في الشهوة، بخلاف صاحب الشبهة والفكرة الخاطئة.
ثالثًا: ثم كانت النتيجة أن أهلَكَهم الله بعد أن نجَّى لوطًا ومن آمن به ﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ ﴿٨٣﴾ فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾.
أما قصة شعيبٍ مع قومه فتتلخَّص في الآتي:
أولًا: أنه بدأ بدعوتهم إلى التوحيد كسائر الأنبياء مع أقوامهم ﴿وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥ ۖ﴾.
ثانيًا: ثم ثنَّى بقضيَّةٍ مركزيَّةٍ خاصة في هؤلاء القوم ﴿فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ﴾ منبِّهًا أن هذا الظلم يقود إلى فسادٍ عريضٍ في الأرض ﴿وَلَا تُفۡسِدُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَاۚ﴾.
ثالثًا: ثم ثلَّثَ بدعوتهم إلى ترك الناس وما يختارون بلا ظلمٍ ولا إكراهٍ ﴿وَلَا تَقۡعُدُواْ بِكُلِّ صِرَ ٰ⁠طࣲ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجࣰاۚ﴾.
رابعًا: أن الناس قد انقسموا إلى طائفتين اثنتين: ﴿وَإِن كَانَ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنكُمۡ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِیۤ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَطَاۤىِٕفَةࣱ لَّمۡ یُؤۡمِنُواْ فَٱصۡبِرُواْ حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَیۡنَنَاۚ﴾.
وكان بين الطائفتين كلامٌ وأخذٌ وردٌّ، يحاول أهل الباطل فيه أن يُثنُوا أهلَ الحقِّ ﴿لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ ﴿٨٨﴾ قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ﴾.
خامسًا: كتَبَ الله على هؤلاء المكذِّبِين الهلاك كما كتبه على المكذِّبِين من كلِّ قومٍ ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِی دَارِهِمۡ جَـٰثِمِینَ ﴿٩١﴾ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ شُعَیۡبࣰا كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡاْ فِیهَاۚ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ شُعَیۡبࣰا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾.

تعقيب قرآني


بعد أن عرض القرآن لهذه النماذج المختلفة خلص إلى تقرير القواعد والتوجيهات الكليَّة، وكأنها خلاصة ما ينبغي استِنباطه من تلك التجارب:
أولًا: أنه تعالى لم يُهلِك قومًا إلا بعد أن أقام الحجَّة عليهم بإرسال الرسل وبيان الحقِّ ﴿تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤىِٕهَاۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَمَا كَانُواْ لِیُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
ثانيًا: أنه تعالى لم يأخذ قومًا على غرَّة، بل جاءهم بما يكفي للتذكُّر والتدبُّر ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِی قَرۡیَةࣲ مِّن نَّبِیٍّ إِلَّاۤ أَخَذۡنَاۤ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَضَّرَّعُونَ﴾ ثم يعفُو ويصفح، ويبدِّل الحسنة مكان السيئة، والرخاء مكان الشدَّة، لعلَّ الذي لم تُرجِعه الشدة أن تُرجِعه النعمة ﴿ثُمَّ بَدَّلۡنَا مَكَانَ ٱلسَّیِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَاۤءَنَا ٱلضَّرَّاۤءُ وَٱلسَّرَّاۤءُ فَأَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾.
ثالثًا: أن العذاب والضنك والشقاء قرين الظلم والبغي والتكذيب بالحق، والعكس بالعكس ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ﴾.
رابعًا: أن هذه العاقبة سنّةٌ من سنن الله لا تستثني أحدًا، وأن وعيد الله قائمٌ لكلِّ ظالمٍ متجبّرٍ كَفّارٍ إلى قيام الساعة، فليست هذه قصصًا تاريخيّةً مجرّدةً، بل هي سنّةٌ ماضيةٌ حتى يرث الله الأرض ومن عليها ﴿أَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰۤ أَن یَأۡتِیَهُم بَأۡسُنَا بَیَـٰتࣰا وَهُمۡ نَاۤىِٕمُونَ ﴿٩٧﴾ أَوَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰۤ أَن یَأۡتِیَهُم بَأۡسُنَا ضُحࣰى وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ ﴿٩٨﴾ أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾.
خامسًا: أن السلوك الأغلب لعامة البشر وفق كلّ هذا التاريخ الطويل يؤكِّد انحياز الناس إلى شهواتهم وموروثاتهم، والرغبة في إبقاء ما كان على ما كان دون التأكُّد من صحة الفكرة، أو سلامة السلوك، هذا هو شأنُ المجتمعات البشرية، وهو سبب التخلُّف الذي يَعتَرِيها وتكرار مآسِيها وتجاربها الفاشِلة أو القاتِلة ﴿وَمَا وَجَدۡنَا لِأَكۡثَرِهِم مِّنۡ عَهۡدࣲۖ وَإِن وَجَدۡنَاۤ أَكۡثَرَهُمۡ لَفَـٰسِقِینَ﴾.
يجدر التنبُّه هنا أن بدايات الدعوة كما يقصُّها القرآن في هذه النماذج لم تكن واحدة؛ ففي قصة نوحٍ وهودٍ وصالحٍ كانت الدعوة خالصة إلى التوحيد، بينما في قصة لوطٍ كانت الدعوة لمحاربة الفساد الخُلقي، وكأنها غاية الرسالة ومحورها الأساس.
أما في قصَّة شعيب فهناك جمعٌ واضحٌ من البداية بين الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى رفع الظلم الاقتصادي.
وهذه كلُّها تُعطِي خياراتٍ واسعةً للعمل الإسلامي المعاصر، فقد يكون الباب الأنسَب للدخول في الإسلام ما يَمَسُّ حاجةَ الناس واهتمامهم، وليس بالضرورة أن يكون في مسائل العقيدة والتوحيد والإيمان بالغيب، كما أن فتح منافذ التفكير ورفع قيود الشهوة، والتخفيف من وطأة الظلم كلُّ هذه شروط متقدمة وممهدة لنجاح الدعوة، وصناعة بيئة مناسبة للموعظة، والمجادلة الهادفة.


﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدࣲ مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ دليلٌ على انحراف قوم لوطٍ ليس عن الدين فقط، بل عن السلوك البشري عامة، مما يدلِّل على أن هذه الفاحشة مُنافية لقواعد الفطرة الآدمية، بل ولسلوك الكائنات الحيَّة عامة.
﴿إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةࣰ﴾ مع أنه ليس فيهم من صفات الرجولة شيء، وإنما هو استقباحٌ شديدٌ لفِعلهم، كأنه يقول: هؤلاء خلقهم الله ليكونوا رجالًا، فكيف انتَكَسَت فطرتكم، وارتَكَسَت عقولكم، فحوَّلتم الرجولة إلى متعة ومَلهاة؟
﴿مِّن دُونِ ٱلنِّسَاۤءِۚ﴾ إشارة إلى جانب آخر من الفساد، فالنساء اللواتي لا يجِدن بُغيتهن من رجالهن سينحرفن أيضًا، ويبدو أن المجتمع كان مُجتمعًا فوضويًّا عابِثًا، وليس هو اكتفاءً تامًّا بالرجال عن النساء؛ إذ لو كان كذلك لانقطَعَ النسل بالكامل، والله أعلم.
﴿أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ﴾ ربما كان ذلك على سبيل التهكُّم والسخرية، لكن حالة هؤلاء القوم لا يُستبعَد معها أنهم يُفاخِرون بالفساد والرذيلة، ولا يحاولون تغطيتها أو تسميتها بغير أسمائها، وهذا دركٌ ما تحته درك، وشذوذٌ ما بعده شذوذ.
﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ﴾ المؤمنين، بدلالة هلاك امرأته وهي من أهله - دون شكٍّ -؛ لأنها لم تكن من المؤمنين.
﴿إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾ الهالِكِين بمخالفة أمره، وموالاتها لقومها حتى أصابَها ما أصابَهم.
﴿وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهِم مَّطَرࣰاۖ﴾ هو مطر العذاب والهلاك، وأصل المطر الماء النازل من السماء، واستعمل هنا في غير الماء في الحجارة ونحوها بجامع النزول من العلو؛ بحيث لا يمكن لأحدٍ أن يمنعه أو يتحكَّم به.
﴿وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ﴾ أصلٌ في المكيلات والموزونات ونحوها، ولا يمنع تعدِّيه لسائر الحقوق المادِّيَّة والمعنويَّة.
﴿إِذۡ كُنتُمۡ قَلِیلࣰا فَكَثَّرَكُمۡۖ﴾ بالمال والعيال، وفيه تنبيه أنهم لم يكونوا بحاجةٍ إلى تطفيف الميزان، فقد كانوا أهل نعمةٍ وخيرٍ، لكنَّه الطمع والاستهانة بمال الآخرين.
﴿حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَیۡنَنَاۚ﴾ يفصل بيننا بالعاقبة، وهي نجاة المؤمنين وهلاك المكذِّبِين.
﴿۞ قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ﴾ تأكيدٌ قرآنيٌّ، وتكرارٌ أن التكبُّر هو السبب الأول والأبرز في الضلالة، والصدِّ عن سبيل الحقِّ.
﴿أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ﴾ استعظامٌ لإكراه الناس على غير ما يؤمنون به.
﴿قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم﴾ هذه قاعدةٌ كبيرةٌ للعلماء وللدعاة إلى الله أنهم حينما يُجامِلُون الباطل فإنهم لا يرتكِبُون ذنوبًا ذاتيةً كسائر الناس، بل إنهم يكذِبُون على الله، فالناس يأخذون عنهم دينَهم بأقوالهم وأفعالهم، وفعل العالم الظاهر للناس بخلاف ما يعلم هو تبليغٌ كاذبٌ عن العلم الذي يحمِلُه، وبهذا يكون قد ضلَّ بنفسه وأضلَّ غيره.
﴿إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ﴾ قال: الملَّة، وهي الدين والمعتقد، ولم يقل: الأرض أو القبيلة أو المجتمع؛ لأن التعايش مع الكافرين لا ينقض الإيمان، ولا يعارض عقيدة الولاء والبراء كما توهَّم من توهَّم، إذا كانت المفاصلة في الدين قائمة؛ ولذلك بقي المسلمون في مكة ولم يفكروا بالخروج عنها إلَّا بعد حملات التنكيل والتعذيب؛ بحيث لم تعُد صالحةً للدعوة، ولا للعيش والسكن، ولو كان أصلُ العيش محرَّمًا معهم لخرجوا قبل ذلك.
﴿رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ﴾ أي: افصل بيننا وبينهم، وميِّزنا عنهم إن حكَمتَ بهلاكهم.
﴿كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡاْ فِیهَاۚ﴾ كأنهم لم يسكنوا ولم يقيموا فيها.
﴿لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّی﴾ أتى بالجمع؛ تنبيهًا إلى تنوُّع رسالته بين دعوته للتوحيد، ودعوته لرفع الظلم الاقتصادي، ومحاربة الفساد في الأرض.
﴿فَكَیۡفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوۡمࣲ كَـٰفِرِینَ﴾ حوارٌ مع النفس يحكِي حالَ التردُّد بين التسليم بقضاء الله وحكمه وفصله، وبين الحزن على الأقربين الذين ماتوا على الكفر وهلَكُوا بسببه، وهو تردُّدٌ مشروعٌ ومقبولٌ؛ إذ الحزن هنا لا يعارض التسليم، بل هو لوعةٌ عاطفيَّةٌ بحكم الرحِم والقُربَى، تجري جنبًا إلى جنبٍ مع الإيمان بالله، والتسليم بقضائه.
﴿بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ﴾ أنواعٌ من البلاء في النفس والمال، والحياة العامة والخاصة.
﴿یَضَّرَّعُونَ﴾ يتوبون ويرجعون إلى الحقِّ، ويخضعون لله وحده.
﴿مَكَانَ ٱلسَّیِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ﴾ مكان البؤس النعيم، ومكان الضر الخير.
﴿حَتَّىٰ عَفَواْ﴾ كثروا نسلًا ومالًا لما منحهم الله من السكينة والاستقرار والنعيم.
﴿وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَاۤءَنَا ٱلضَّرَّاۤءُ وَٱلسَّرَّاۤءُ﴾ كأنهم يقولون: هذه هي الدنيا لا تستقيم على حال، ولم يتنبَّهوا إلى ما في كلِّ ذلك من تنبيهاتٍ ومواعظٍ، فأغلقت عقولهم، وسكِّرَت أبصارهم عن مشاهدة السرِّ الإلهي في كلِّ هذه الأحوال، ولذلك لم ينتَفِعُوا منها بشيءٍ، بل زادوا بها طغيانًا على طغيانهم، وغفلةً على غفلتهم.
﴿فَأَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ﴾ بالنسبة لغفلتهم، وإلا فإنَّ الله أنذَرَهم بالرسل، ثم برسائل القدر من ابتلاءاتٍ، وتنبيهاتٍ متنوعةٍ ومتكررةٍ.
﴿فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ﴾ من الآثام والمظالم، وفيه تأكيدٌ أن القدر مقتَرِنٌ دائمًا بعدل الله وحكمته ورحمته، وهو منزَّهٌ عن الظلم والعبَث، تعالى الله وتقدَّس عن ذلك.
﴿بَیَـٰتࣰا وَهُمۡ نَاۤىِٕمُونَ﴾ وقت الراحة.
﴿ضُحࣰى وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ﴾ وقت الغفلة، وكلاهما من ملابسات البغتة - والعياذُ بالله -، وفيها أن قدرة الله مطلقة لا يحدُّها مكان، ولا يقيِّدها زمان.
﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ﴾ باستدراجهم في النعماء حتى يظنُّوا أنهم قد فُضِّلُوا على من سِوَاهم، وأنهم مُستثنَون من وعيد الله، وهذه حالُ أهل الكبر والغفلة حتى تصدمهم الحقيقة، وتحلَّ بهم القارعة.
﴿أَوَلَمۡ یَهۡدِ لِلَّذِینَ یَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَاۤ﴾ أي: ألم يتبيَّن لهؤلاء الذين يعيشون في الأرض اليوم بعد هلاك أسلافهم ومن كان يعمرها قبلهم؟
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ هو طبعٌ وفق سنن الله العادلة، فالكبر والجهل والظلم كلُّ هذه أسبابٌ لتغليف القلوب، وتحجير العقول، فلا يطبَعُ الله على قلبٍ ظُلمًا له، أو خروجًا عن هذه السنن وهذه الأسباب، فكان مَثَلُ هؤلاء مَثَلُ من يشرب السمَّ، فيكتب الله عليه الموتَ بذلك، والله أعلم.