﴿إِنَّـاۤ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦۤ﴾ افتتاحُ الإخبار عن رسالة نوحٍ
عليه السلام بأداةٍ من أدوات التوكيد دليلٌ على أهمية الخبر، وقوم نوحٍ هم سكّان الأرض في ذلك الزمن المُبكِّر من تاريخ البشَر.
﴿أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِیعُونِ﴾ أي: وأطيعوني، بتأكيد أنّ طاعة النبيّ المرسل إنّما هي طاعةٌ لله؛ لأنّه المبلِّغ عن الله.
﴿یَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ﴾ أي: يغفر لكم ذنوبكم، و
﴿مِّن﴾ هنا أفادت التوكيد، وجاء الفعل
﴿یَغۡفِرۡ﴾ مجزومًا؛ لأنّه جوابُ الأوامر الثلاثة المُتقدِّمة في قوله:
﴿أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِیعُونِ﴾.
﴿وَیُؤَخِّرۡكُمۡ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمًّىۚ﴾ أي: ويُمهلكم إلى آجالكم المُحدَّدة ولا يُعجِّل لكم الهلاك.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوۡتُ قَوۡمِی لَیۡلࣰا وَنَهَارࣰا﴾ أي: في الليل، وفي النهار، والعبارة تُوحي بالمداومة، وفيها أنّه كان يختار الوقت الأنسب من ليلٍ أو نهارٍ.
﴿فَلَمۡ یَزِدۡهُمۡ دُعَاۤءِیۤ﴾ أي: ندائي ودعوتي لهم.
﴿جَعَلُوۤاْ أَصَـٰبِعَهُمۡ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ﴾ أي: سَدُّوا آذانَهم بأطراف أصابعهم لكي لا يسمَعوا كلامِي، وذِكرُ الأصابع مجازٌ بإطلاق الكلّ وإرادة الجزء؛ لأنّ الأصابع لا تدخل كلّها في الآذان، وفائدتُه تصوير مبالغتهم في غلق آذانهم.
﴿وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِیَابَهُمۡ﴾ أي: غطّوا بها وجوههم وأعينهم لكي لا يرَوه وهو يتحدَّثُ إليهم، فلم يكتَفوا بسدِّ الآذان، وهذه مُبالغةٌ منهم لكي لا يفهَمُوا شيئًا من كلامه ولو من خلال حركة الشفتَين وإشارة اليدَين وتقاسيم الوجه.
﴿وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارࣰا﴾ بيانٌ ضمنيٌّ لعلّة هذا الإعراض والإصرار هي التكبُّر، وهذه علَّةُ العِللِ، وبليَّةُ البلايا.
﴿ثُمَّ إِنِّی دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارࣰا﴾ أي: دعَوتُهم دعوةً واضحةً ليس فيها خفاءٌ ولا غموضٌ.
﴿ثُمَّ إِنِّیۤ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارࣰا﴾ بحسب ما يقتضي المقام، فيُعلن لهم دعوته في المجالس العامة، ويُسِرُّ مع الأفراد الذين يُحاورهم تجنُّبًا لإحراجهم في مُجتمعهم.
وهذه الطريقة التي أقرَّها القرآن تُبيِّن أنّ الدعوة إلى الله لا تكون بطريقةٍ واحدةٍ، ولا على وتيرةٍ واحدةٍ، بل هي مُرتبطة بغاياتها وأهدافها الفرديّة والجماعيّة، وأمّا الذي يظنُّ أنّ إعلان الحقّ بوجه الناس ومُجابَهتهم به على كلّ الأحوال دليلٌ على شجاعته وقوّة إيمانه، فظنُّه هذا وَهْمٌ ومُجانبةٌ للمنهج القرآني، فقولُ الحقِّ له وقته، وله طريقته، وله غايته أيضًا، فإذا جاء بعكس غايته كان السكوت عنه أَولَى.
﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارࣰا ﴿١٠﴾ یُرۡسِلِ ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیۡكُم مِّدۡرَارࣰا ﴿١١﴾ وَیُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَ ٰلࣲ وَبَنِینَ وَیَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّـٰتࣲ وَیَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَـٰرࣰا﴾ هذا أسلوبٌ آخر من أساليب الدعوة، وهو ترغِيبُهم بالنعيم الدنيوي؛ أن يُرسِل السماء عليهم بالمطر الكثير، وأن يمدّهم بالأموال والبنين، وأن يجعل لهم البساتين والأنهار.
وهنا مسألةٌ عظيمةٌ من مسائل الدعوة؛ حيث يظنُّ بعض الدعاة أنّ واجبهم ينتهي عند تذكير الناس بالله واليوم الآخر، أمّا الدنيا فلها أهلها ولها طلّابها! بينما يسعى دعاة الكفر لتقديم البرامج والنظريات العلميّة والاقتصاديّة والخدميّة القادرة على حل مشاكل الناس، وتطوير وسائل العيش، وهنا يكون المُستجِيبون للدعوة بل والدعاة أنفسهم في أزمةٍ داخليةٍ، أعلنوا عنها أم لم يُعلنوا؛ فمن ناحية هم مؤمنون بأنّ الإسلام هو الحقّ وكلّ ما خالفه هو الباطل، ثم يذهبون إلى هذا الباطل في أغلب شؤون حياتهم.
إنّ هذه الآيات من دعوة نوحٍ
عليه السلام تفتح الباب لمساحة أخرى من الدعوة تجمع بين البشارة الأخرويّة والبشارة الدنيويّة، وهذه تتطلَّب جهدًا مضافًا، قد لا يكون من الناحية العمليَّة بأقل كُلفة من الدعوة للإسلام نفسه، وقد رأَينا في قصة يوسف
عليه السلام أن جُهده في إنقاذ شعب مصر من الجوع كان لا يقِلُّ عن دعوته إلى الله والدار الآخرة.
﴿مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارࣰا﴾ أي: ما لكم لا تعظِّمون الله حقّ تعظيمه ولا توقِّرونه حقَّ توقِيره.
﴿وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا﴾ أي: خلَقَكم طَورًا بعد طَورٍ، وحالًا بعد حالٍ، من نطفةٍ إلى علقةٍ إلى مضغةٍ حتى تمّ الخلق في الرَّحِم، ثم جاءت الأطوارُ الأخرى من الطفولة إلى الصِّبَا، والفتُوّة والشباب، ثم الكهولة والشيخوخة.
﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَیۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲ طِبَاقࣰا﴾ الأصل في الرؤية أنّها رؤيةٌ بالبصر، لكنها هنا غير مُمكنة؛ وذلك لأنّ الناس لم يَرَوا السماوات السبع، فيحمل الكلام على ما يستقيم من المعنى، ومن ذلك: أن تكون الرؤية هنا بمعنى العلم، بمعنى أنّهم قد استقرَّ عندهم أنّ هناك سبع سماوات، وهذا العلم قد يكون من نبوَّةٍ سابقة، أو أنّه
عليه السلام يُخبرهم إخبارًا كأنّه يقول لهم: إنّكم ترَون هذه السماء التي فوقكم والتي لا تعرفون عنها إلّا صورتها الظاهرة، فاعلَموا أنّ فوق هذه السماء سماوات أخر، فتكون السماء الدنيا التي يرَونها بأعينهم صورة تقرِّب لهم الصورة الأكبر لهذا الكون العظيم، والله أعلم.
﴿وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِیهِنَّ نُورࣰا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجࣰا﴾ ميَّز الشمس عن
القمر بأنّها سراجٌ، والسراج متَّقِدٌ بالنار مع ما فيه من ضوءٍ، بخلاف النور المُجرَّد الذي هو ضد الظلمة، ولا يشترط فيه الحرارة ولا التوقُّد.
﴿وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتࣰا﴾ أي: خلقكم منها، بخلق آدم من التراب، ثم بتغذية أجسادكم مِمّا تُنبِتُه الأرض.
﴿ثُمَّ یُعِیدُكُمۡ فِیهَا﴾ بدفنكم عند موتكم.
﴿وَیُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجࣰا﴾ بالبعث والنشور، وهذه الصورة بمراحلها الثلاث تُشبِه صورة النبات؛ حيث ينبت من الأرض، ثم تتلف النبتة فتدفن بذورها في التربة، ثم تخرج مرة أخرى، فتبارك الله أحسن الخالقين.
﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطࣰا﴾ أي: مبسوطةً ومُمهدةً لعيشكم وحركتكم، وهذا ليس في شكل الأرض الكُلِّي، بل في المساحة التي يراها الإنسان ويعيش عليها.
﴿سُبُلࣰا فِجَاجࣰا﴾ طُرقًا واسعةً لسَيركم وتنقُّلِكم.
﴿وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ یَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥۤ إِلَّا خَسَارࣰا﴾ أي: اتبعوا أصحاب الأموال والأولاد من مُترَفي قومهم على ما هم فيه من ضلالٍ وخسران، وفيه إشارةٌ إلى دور المُترَفين في الاستِحواذ على الناس وصدِّهم عن طريق الحقِّ.
﴿وَمَكَرُواْ مَكۡرࣰا كُبَّارࣰا﴾ أي: مكرًا عظيمًا؛ وذلك بتَواصِيهم على ردِّ دعوتهم والتمسّك بما هم عليه من الوهم والضلال.
﴿وَلَا تَذَرُنَّ وَدࣰّا وَلَا سُوَاعࣰا وَلَا یَغُوثَ وَیَعُوقَ وَنَسۡرࣰا﴾ هذه أسماء أصنامهم، وهي أعلام لا اشتقاق لها في لغة العرب، وأصلُ هذه الأسماء أنّها كانت أعلامًا لرجالٍ صالحين - كما ورد في «البخاري» -، إلَّا أنَّ الشيطان دفع بقومهم أن غالَوا بهم حتى عبَدوهم.
﴿وَلَا تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِینَ إِلَّا ضَلَـٰلࣰا﴾ ليس الضلال هنا الضلال الذي هو ضدّ الهداية إلى الحقِّ؛ لأنّ هذا يُنافي دعوة نوحٍ
عليه السلام من الأصل، وإنّما هو الشَّتَات والهلاك، وضَيَاع قوّتهم ونفوذهم بعد أن علِمَ أنّهم لن يؤمنوا مهما استمرَّ في نصحه ودعوته لهم.
﴿مِّمَّا خَطِیۤـَٔـٰتِهِمۡ﴾ أي: من أجل ظلمهم وشركهم وكثرة خطاياهم.
﴿أُغۡرِقُواْ﴾ أي: بالطوفان.
﴿فَأُدۡخِلُواْ نَارࣰا﴾ تنويعٌ في تعذيبهم بين بردِ الماء وحرِّ النار.
﴿لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ دَیَّارًا﴾ أي: لا تُبقِ أحدًا من ساكِني هذه الديار، والدَّيَّار: ساكِنُ الدار.
﴿إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ یُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا یَلِدُوۤاْ إِلَّا فَاجِرࣰا كَفَّارࣰا﴾ تعليلٌ لدعائه عليهم بالاستِئصال؛ فهم لا مطمع في هدايتهم، مع الخشية من إضلالهم للثُّلَّة القليلة التي آمَنَت بنوحٍ واتبعته، والخشية أيضًا من توريث هذا الضلال للأجيال القادمة.
وفي قوله:
﴿وَلَا یَلِدُوۤاْ إِلَّا فَاجِرࣰا كَفَّارࣰا﴾ مجازٌ مرسلٌ على اعتبار ما يكون؛ لأنّ المولود لا يُولد وهو متّصفٌ بالفجور والكفر، بل يكتَسِب ذلك من أبَوَيه وبيئته بعد أن يشبّ ويكبر.
﴿وَلَا تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِینَ إِلَّا تَبَارَۢا﴾ هلاكًا.