﴿هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینࣱ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـࣰٔا مَّذۡكُورًا﴾ استفهامٌ تقريريٌّ قُصِدَ به إثبات المستفهم عنه، فتكون
﴿ﯜ﴾ هنا بمعنى قد، وهذه حقيقةٌ بحقِّ كلِّ إنسانٍ أنّه كان بعد أن لم يكن، وحقيقةٌ أيضًا بالنسبة للجنس البشري؛ فإنّ سلسلة الأجيال المُتعاقِبة لا بُدَّ أن تكون لها بداية، وباطلٌ في منطق العقل والعلم افتِراض وجود آباء لا نهاية لهم، فتعيَّن أن تكون هناك لحظة زمنيّة بدأ بها خلقُ الإنسان.
﴿مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ﴾ أي: من نطفةٍ مختلطةٍ، ومعنى الاختلاط هنا ظاهرٌ في اختلاط ماء الرجل بماء المرأة، ولا يمنع أن يكون المقصود أيضًا اختلاط العناصر المختلفة في ماء الرجل نفسه الذي يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية مع السائل الذي تسبح فيه، وهذا ما أثبَتَه العلم، والله أعلم.
﴿نَّبۡتَلِیهِ﴾ بيانٌ لحكمة الخلق وهي الابتلاء والاختبار.
﴿إِنَّا هَدَیۡنَـٰهُ ٱلسَّبِیلَ﴾ أوضَحنا له طريقَ الحقِّ بالرسالات التي جاء بها الرُّسُل، وبالحُجَج والبراهين، والآيات المبثُوثة في هذا الكون.
﴿إِمَّا شَاكِرࣰا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ بمعنى أنّه بعد خَلقه على أحسن وجه، وبعد بيان الطريق أمامه بالحجَّة والدليل، يتحمّل هو مسؤوليّته أن يكون شَكورًا لربه معترفًا بفضله، أو يكون كثيرَ الكفر مُتنكِّرًا لفضل الله عليه.
﴿إِنَّـاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ سَلَـٰسِلَاْ وَأَغۡلَـٰلࣰا وَسَعِیرًا﴾ السلاسِل: هي حِلَق
الحديد المتّصلة، والتي تُلَفُّ على الكافر حتى كأنّه يكون في داخلها كما بيّنتْ ذلك سورة الحاقّة، والأغلال تلك التي يُطوَّق بها العنق وتكون حلقة واحدة لكنها كبيرة، والسعير: النار المُستعِرة.
﴿ٱلۡأَبۡرَارَ﴾ جمعٌ، مفرده بارٌّ، وهو من البرِّ بمعنى الشكر والإحسان.
﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ أي: ممزوجة بالكافور، وهو نوعٌ من الطِّيب الذي يُضاف إلى الشراب لتطييبه.
﴿عَیۡنࣰا یَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ﴾ أي: هذا الكافور يُؤخذ من عينٍ تجري به، و
﴿یَشۡرَبُ بِهَا﴾ أي: يشرَبون شرابَهم ممزوجًا بها، فالباء ليست زائدة كما يقوله بعض المُفسِّرين، والله أعلم.
﴿یُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِیرࣰا﴾ أي: يُفجِّرون هذه العيون في الأماكن التي يُريدون، والتفجير هنا على سبيل الابتهاج والاحتفال، وليس على سبيل النَّصَب وبذل الجهد، كتفجير عيون الأرض.
﴿یُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ﴾ هذه أوَّلُ صفةٍ من صفات الأبرار، والظاهر أنّها صفةٌ أكبرُ وأوسعُ من مفهوم النَّذر الفقهي، بل هي صفةٌ تعني: الوفاء بالعهود، وبمتطلّبات الإيمان؛ كإخلاص العبادة، والسمع والطاعة لله ولرسوله، والالتِزام بكلِّ ما ألزموا أنفسهم به؛ كالنذور المعروفة، وأنواع القُربات، والله أعلم.
﴿وَیَخَافُونَ یَوۡمࣰا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِیرࣰا﴾ أي: مُنتشِرًا وواسعًا، وهو يوم القيامة، فهؤلاء الأبرار كانوا يحسِبُون لذلك اليوم حسابه، ويأخذون له عدَّته.
﴿وَیُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ﴾ أي: مع محبّتهم له وحاجتهم إليه، ونظيرُ هذا قولُه تعالى في الأنصار:
﴿وَیُؤۡثِرُونَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةࣱۚ﴾ [الحشر: 9].
﴿مِسۡكِینࣰا وَیَتِیمࣰا وَأَسِیرًا﴾ اختلف المفسِّرون في معنى الأسير هنا؛ لأنّ السورة مكِّيَّة - على الأرجح - ولم يكن ثَمّة قتال، فحمَلُوه على العبيد المسلمين الذين كان المشركون يُجوِّعونهم ويعذِّبونهم ويحبسونهم، والأظهر أنّ العبيد داخلون في المساكين، وإطلاقُ اسم الأسير عليهم لا يخلُو من تكلُّف؛ فالأسير هو أسير الحرب، والحرب كانت موجودة ومتوقَّعة بين القبائل وليس شرطًا أن يكون الأسير في معركةٍ بين المسلمين وسواهم، وكثيرٌ من العبيد كانوا أحرارًا، وإنّما استُرِقّوا بالأسر.
ثم إنّ الحديث عن هذا الخُلُق يُظهر ميزَة الإسلام حتى لو لم يكن هنالك أسرى في الواقع، كما أنّه يُهيِّئ المسلمين للمرحلة القادمة، وقد وردَت الإشارة في السور المكِّيِّة إلى بعض العبادات التي لم تشرع إلَّا في المدينة؛ كالإشارة إلى الزكاة، والحج، بل ووردَت الإشارة في مكَّة إلى معركة بدر ومقتل بعض المشركين فيها، والله أعلم.
﴿إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِیدُ مِنكُمۡ جَزَاۤءࣰ وَلَا شُكُورًا﴾ الأظهر أنّهم يقولون هذا في أنفسهم؛ إخلاصًا لله، ودفعًا لأي غرضٍ دنيويٍّ، وفيه أنّ انتظار الجزاء أو الشكر مِن المتصدَّق عليه يُنافِي إخلاصَ العمل لوجه الله، مع التنبيه أنّه من أدَب المُتصدَّق عليه أن يردّ بالشكر والدعاء.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا یَوۡمًا عَبُوسࣰا قَمۡطَرِیرࣰا﴾ جاء هذا في سياق التعليل، أي: إنّهم إنّما يتصدَّقون بتلك الصدقات الخالصة لوجهه تعالى؛ لأنّهم يخافُون الله، ويحسبون حساب الآخرة، والعَبُوس: الكالِح البائِس، والقَمطَرير: الشديد.
﴿وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةࣰ وَسُرُورࣰا﴾ جزاهم بالبُشرى التي تسرُّ القلب ويظهر أثرها المُبهِج على الوجه.
﴿مُّتَّكِـِٔینَ فِیهَا عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِۖ﴾ مُتّكئِين في الجنَّة على الأسِرَّة.
﴿لَا یَرَوۡنَ فِیهَا شَمۡسࣰا وَلَا زَمۡهَرِیرࣰا﴾ أي: لا يتأذَّون فيها بحرٍّ ولا ببردٍ.
﴿وَدَانِیَةً عَلَیۡهِمۡ ظِلَـٰلُهَا﴾ أي: ظِلال أشجارها قريبة منهم، والمقصود لازم الظلِّ، وهي الأغصان والأفنان بقرينةِ:
﴿لَا یَرَوۡنَ فِیهَا شَمۡسࣰا﴾ وهم ليسُوا بحاجةٍ إلى الظلِّ الذي يَقِيهم من الحرِّ، والله أعلم.
﴿وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِیلࣰا﴾ أي: هي مُسخَّرةٌ لهم وطَوع أيديهم يَجنُون مِن ثمارها متى شاءوا من غير جهدٍ ولا تكلُّف، والقُطُوف: جمع قِطاف؛ وهي الثمرة التي تُقطف.
﴿قَوَارِیرَاْ مِن فِضَّةࣲ﴾ صفةٌ للأكواب التي يشربون بها، والقوارِير لا تكون إلَّا من الزجاج، كما قال تعالى:
﴿إِنَّهُۥ صَرۡحࣱ مُّمَرَّدࣱ مِّن قَوَارِیرَۗ﴾ [النمل: 44]، وكونها من فضّة أيضًا فيه إشكال؛ ولذلك قال المفسرون: إنّها من فضّةٍ صافيةٍ تُشبِه الزجاج، والذي دعاهم إلى هذا التأويل استِبعادهم لأَن تكون الأكواب مصنوعةً من العنصُرَين معًا؛ الزجاج والفِضَّة، ولست أرَى ذلك مُستبعَدًا في الآخرة، بل ولا مُستحيلًا في الدنيا، والله أعلم.
﴿قَدَّرُوهَا تَقۡدِیرࣰا﴾ أي: الذين يطوفون عليهم بهذه الأكواب يعرِفون عددهم، ومِقدارَ حاجتهم للشراب، فيُقدِّمون لهم بقَدر ما يحتاجون ويشتهون.
﴿وَیُسۡقَوۡنَ فِیهَا كَأۡسࣰا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِیلًا﴾ هذا شرابٌ آخر؛ فذاك يُمزج بالكافور، وهذا يُمزج بالزنجبيل، وليس الكافور ككافور الدنيا، وليس الزنجبيل كزنجبيلها.
﴿عَیۡنࣰا فِیهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِیلࣰا﴾ أي: كما أنّ للكافور عَينًا، فإنّ للزنجبيل عينًا كذلك، وزاد هنا ذكر اسمها، والسلسَبِيل عَلَمٌ على هذه العَين، وهو يُوحِي بالرقَّة والسهولة، والله أعلم.
﴿۞ وَیَطُوفُ عَلَیۡهِمۡ وِلۡدَ ٰنࣱ مُّخَلَّدُونَ﴾ الوِلدان جمعٌ مُفرده وليد؛ وهو الصبيُّ، وهؤلاء هم المكلَّفون بخدمة أهل الجنَّة، وهم مخلَّدون لا يهرَمون ولا يموتون.
﴿إِذَا رَأَیۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤࣰا مَّنثُورࣰا﴾ لحُسنهم وانتشارهم بين أصحاب الجنّة.
﴿وَإِذَا رَأَیۡتَ ثَمَّ رَأَیۡتَ نَعِیمࣰا وَمُلۡكࣰا كَبِیرًا﴾ أي: إذا رأيتَ ما هنالك ترى نعيمًا عظيمًا، ومُلكًا كبيرًا، أي: إنّ الذي تقدَّم من النعيم ما هو إلَّا جزءٌ في ذلك المُلك الفخم الواسع.
﴿عَـٰلِیَهُمۡ ثِیَابُ سُندُسٍ خُضۡرࣱ وَإِسۡتَبۡرَقࣱۖ﴾ أي: يعلُوهم ويكسُوهم ثيابٌ من سندسٍ وإستبرقٍ، والسُّندُس: رقيقُ الحرير، ويلبس مما يَلِي البدن، والاستِبرَق: سميك الحرير، وهو الظاهر من اللباس، والخُضر: جمع أخضَر؛ وهو لون السندس.
﴿وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةࣲ﴾ أي: يتزيَّنون بها، والإشارةُ هنا إلى قيمة التزيُّن والتجمُّل.
﴿وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابࣰا طَهُورًا﴾ هذا شرابٌ آخر لم يُفصِّله القرآن، وإنّما اكتفَى بإسناده إلى الله تبارك وتعالى، وهذا كافٍ عن ذِكر ميزته وخيريَّته على كلِّ الشراب، مع أنّ الغموض هنا في صفة الشراب يدعو إلى التشوُّف له والتشوُّق إليه، وشوق العارفين إلى ربِّهم أعظم وأكبر.
﴿وَكَانَ سَعۡیُكُم مَّشۡكُورًا﴾ هذا مِن إكرام الله لهم وتلطُّفه بهم؛ فهذا النعيم العظيم سيتجلَّى سعادةً وهناءةً أكثر حينما يرَى صاحِبُه أنّه كان بجهدٍ منه وبتعبٍ ونصبٍ، إنّه يرى نتيجة نجاحه في الابتلاء الطويل، وصبره على هذه الدعوة، وليله الذي كان يَقضِيه بالذِّكر والدعاء، ونهاره الذي كان يَقضِيه بالصوم والعمل، وصدقاته وصلاته، كلّها هنا، يراها أمامه نعيمًا ورضًا كريمًا.
اللهم فلا تحرِمنا من ذلك النعيم، ومتّعنا برضاك والنظر إلى وجهك الكريم.
﴿فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورࣰا﴾ تذكيرٌ بذلك السعي المطلوب للوصول إلى هذا النعيم المحبوب.
﴿وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلࣰا﴾ في بداية اليوم استعدادًا للعمل، وفي نهايته استغفارًا من الزلل.
﴿وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَیۡلࣰا طَوِیلًا﴾ فهذا أرجَى الأعمال المُوصِلة إلى تلك الجِنان؛ لأنّه خالِصٌ مِن شوائِبِ الرياء، وحظوظ النفس العاجلة.
﴿إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ یُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ﴾ أي: يُحبُّون الدنيا حبًّا يُلهِيهم عن الآخرة؛ ولذلك قال بعدها:
﴿وَیَذَرُونَ وَرَاۤءَهُمۡ یَوۡمࣰا ثَقِیلࣰا﴾ وهو يوم القيامة.
﴿نَّحۡنُ خَلَقۡنَـٰهُمۡ وَشَدَدۡنَاۤ أَسۡرَهُمۡۖ﴾ أي: خلَقنَاهم وأحكَمنا خِلقَتهم، وربطنا حياتهم بناموس هذا الكون، وقدَّرنا عليهم حياتهم وموتهم، فأمرهم إلينا، وهم تحت حكمنا.
﴿وَإِذَا شِئۡنَا بَدَّلۡنَاۤ أَمۡثَـٰلَهُمۡ تَبۡدِیلًا﴾ تفريعٌ عمّا تقدم، أي: بما أنّهم تحت حكمنا وإرادتنا، فنحن قادرون على أن نُهلكهم ونأتي بخلقٍ آخر مثلهم، ونظير هذا قوله تعالى:
﴿إِن یَشَأۡ یُذۡهِبۡكُمۡ وَیَأۡتِ بِخَلۡقࣲ جَدِیدࣲ﴾.
﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذۡكِرَةࣱۖ﴾ أي: إنّ هذه الآيات تذكيرٌ للناس وموعظةٌ لهم.
﴿فَمَن شَاۤءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِیلࣰا﴾ حثٌّ للمتذكِّر والمُتَّعِظ أن يُبادر إلى الطريق الموصول بالله، وهو طريق الإيمان والإسلام، وفيه إثباتٌ لمشيئة الإنسان وقُدرته على الاختيار.
﴿وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ﴾ فمشيئةُ الإنسان لا تخرج عن مشيئة الله، بمعنى أنَّ الله هو الذي أرادَ أن تكون للإنسان مشيئة، ولو شاء سبحانه لجعله خلقًا آخر لا يُريد ولا يختار، وهذه المشيئة التي خلقها الله في الإنسان هي مناطُ التكليف، وهي محل الثواب والعقاب، والله أعلم.
﴿یُدۡخِلُ مَن یَشَاۤءُ فِی رَحۡمَتِهِۦۚ﴾ ورحمة الله واسعة، وقد سبقت رحمته غضبه.
﴿وَٱلظَّـٰلِمِینَ أَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمَۢا﴾ بمعنى أنَّهم مُستحِقُّون لهذا العذاب بظلمهم، وليس لسلب إرادة الخير عنهم، وهذا تأكيدٌ مُتكرِّرٌ لعقيدة العدل الإلهي؛ فلكلِّ جانٍ ما جنَى، ولكلِّ عاملٍ ما عمل.