سورة المرسلات تفسير مجالس النور الآية 3

وَٱلنَّـٰشِرَ ٰ⁠تِ نَشۡرࣰا ﴿٣﴾

تفسير مجالس النور سورة المرسلات

المجلس الحادي والسبعون بعد المائتين: ويل يومئذٍ للمكذِّبين


سورة المرسلات


تكرَّرَت في هذه السورة آية: ﴿وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ﴾ عشر مرَّات على قِصَر السورة، وهذا يعني أنّ موضوع السورة المحوري هو: الردُّ على المُكذِّبين ودَحض شُبُهاتهم، وإقامة الحُجَّة عليهم، وتحذيرهم من مغبَّة هذا التكذيب، ويمكن تلخيص ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: أقسَمَ الله تعالى بصِنفَين من مخلوقاته: الرياحُ المُرسَلةُ بأمر الله، والتي تَتَابعُ في هبوبها وتشتدُّ حتى تكون عاصِفة، والملائكة التي تأتي بالوحي المنشُور البيِّن الواضح، والذي يُفرِّق بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والذي فيه الإعذار والإنذار، ولمَّا كانت هذه هي صفات الوحي، فقد استعارَها القرآن استِعارةً للملائكة النازلة به ﴿وَٱلۡمُرۡسَلَـٰتِ عُرۡفࣰا ﴿١﴾ فَٱلۡعَـٰصِفَـٰتِ عَصۡفࣰا ﴿٢﴾ وَٱلنَّـٰشِرَ ٰ⁠تِ نَشۡرࣰا ﴿٣﴾ فَٱلۡفَـٰرِقَـٰتِ فَرۡقࣰا ﴿٤﴾ فَٱلۡمُلۡقِیَـٰتِ ذِكۡرًا ﴿٥﴾ عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا﴾.
وهنا نُكتةٌ لطيفةٌ، وهي أنّ اقتران القَسَم بالملائكة بالقَسَم بالرياح يُشير إلى ما بينهما من الشَّبَه في السرعة واللطافة، ومن حيث إنّ الرياح تحمِل الماء الذي تحيَا به الأرض، وتحمِل الصواعق المُهلِكة، فكذلك الملائكة التي تنزِل بهذا الوحي رحمةً للمؤمنين، وعذابًا للمكذّبين، والله أعلم.
ثانيًا: أما جواب القسَم فكان تأكيد اليوم الآخر وأنّه آتٍ لا محالة ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَ ٰ⁠قِعࣱ﴾ وفي ذلك اليوم سينقَلِب هذا النظام الكوني، وتتغيّر أحوال هذه الأفلاك والموجودات ﴿فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ ﴿٨﴾ وَإِذَا ٱلسَّمَاۤءُ فُرِجَتۡ ﴿٩﴾ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ﴾ وفي ذلك اليوم سيَحِينُ وقت الفصل بين الرسل وبين أقوامهم التي كذّبَتْهم ﴿وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ ﴿١١﴾ لِأَیِّ یَوۡمٍ أُجِّلَتۡ ﴿١٢﴾ لِیَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ ﴿١٣﴾ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ﴿١٤﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ﴾.
ثالثًا: حذَّرَت السورةُ هؤلاء المُكذِّبين، وهم أهلُ مكّة الذين كذَّبوا رسولَ الله أن يُصيبَهم مثل ما أصابَ أسلافَهم من الأمم السابقة ﴿أَلَمۡ نُهۡلِكِ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿١٦﴾ ثُمَّ نُتۡبِعُهُمُ ٱلۡـَٔاخِرِینَ ﴿١٧﴾ كَذَ ٰ⁠لِكَ نَفۡعَلُ بِٱلۡمُجۡرِمِینَ ﴿١٨﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ﴾.
رابعًا: ثم بدأت بمُحاجَجتهم بتذكيرهم بخَلقهم الأوّل؛ إذ أوجدهم الله من العدم، وخلقهم من ماءٍ مهينٍ، وهم ليس لهم شِرك في ذلك ولا لأصنامهم، بل الله وحده هو القادر وهو المُقدِّر سبحانه ﴿أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ ﴿٢٠﴾ فَجَعَلۡنَـٰهُ فِی قَرَارࣲ مَّكِینٍ ﴿٢١﴾ إِلَىٰ قَدَرࣲ مَّعۡلُومࣲ ﴿٢٢﴾ فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَـٰدِرُونَ ﴿٢٣﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ﴾ ثم يُذكِّرُهم بالأرض التي احتَوَت أحياءَهم، وضمَّت أموَاتَهم، وكانت مُمهَّدة لعيشهم بجبالها وأنهارها وما أودَعَه الله فيها، وهذه من دلائل خلق الله وآياته في عنايته بهذا الخلق ﴿أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا ﴿٢٥﴾ أَحۡیَاۤءࣰ وَأَمۡوَ ٰ⁠تࣰا ﴿٢٦﴾ وَجَعَلۡنَا فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ شَـٰمِخَـٰتࣲ وَأَسۡقَیۡنَـٰكُم مَّاۤءࣰ فُرَاتࣰا ﴿٢٧﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ﴾.
خامسًا: تنتقِلُ السورة لتنقل مشاهد من ذلك اليوم؛ يوم الحساب الذي يُكذِّب به المُكذِّبون، لكنّهم سيصطدمون به وبما يلقَونه فيه ﴿ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ﴿٢٩﴾ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلࣲّ ذِی ثَلَـٰثِ شُعَبࣲ ﴿٣٠﴾ لَّا ظَلِیلࣲ وَلَا یُغۡنِی مِنَ ٱللَّهَبِ ﴿٣١﴾ إِنَّهَا تَرۡمِی بِشَرَرࣲ كَٱلۡقَصۡرِ ﴿٣٢﴾ كَأَنَّهُۥ جِمَـٰلَتࣱ صُفۡرࣱ ﴿٣٣﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٣٤﴾ هَـٰذَا یَوۡمُ لَا یَنطِقُونَ ﴿٣٥﴾ وَلَا یُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَیَعۡتَذِرُونَ ﴿٣٦﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٣٧﴾ هَـٰذَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ۖ جَمَعۡنَـٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِینَ ﴿٣٨﴾ فَإِن كَانَ لَكُمۡ كَیۡدࣱ فَكِیدُونِ ﴿٣٩﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ﴾.
سادسًا: في مُقابل أولئك المُكذِّبين، تنقل السورة مشهدًا لأولئك المؤمنين المُتَّقين ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی ظِلَـٰلࣲ وَعُیُونࣲ ﴿٤١﴾ وَفَوَ ٰ⁠كِهَ مِمَّا یَشۡتَهُونَ﴿٤٢﴾ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِیۤـَٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَﯮ إِنَّا كَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾.
سابعًا: تؤكِّد السورة في الختام تهديدها للمكذِّبين بعد إقامة الحجّة عليهم كاملة بيِّنة ﴿وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٤٥﴾ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِیلًا إِنَّكُم مُّجۡرِمُونَ ﴿٤٦﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٤٧﴾ وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا یَرۡكَعُونَ ﴿٤٨﴾ وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٤٩﴾ فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَهُۥ یُؤۡمِنُونَ﴾.


﴿وَٱلۡمُرۡسَلَـٰتِ عُرۡفࣰا﴾ يُقْسِمُ الله تعالى بالرياح التي تأتي مُتتابعة كعُرف الفرس.
﴿فَٱلۡعَـٰصِفَـٰتِ عَصۡفࣰا ﴾ الرياح في حالة اشتدادها وسرعتها.
﴿وَٱلنَّـٰشِرَ ٰ⁠تِ نَشۡرࣰا ﴾ فرَّق بينها وبين العاصفات بالواو، إشارةً إلى مُقسَم به مختلف عن الرياح، والناشِرات: الملائكة التي تنزِل بالوحي المنشور للعالمين وضوحًا وتبيانًا.
﴿فَٱلۡفَـٰرِقَـٰتِ فَرۡقࣰا﴾ تفرّق الملائكة بهذا الوحي بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال.
﴿فَٱلۡمُلۡقِیَـٰتِ ذِكۡرًا﴾ تأكيدٌ أنّ النشر والفرق مُرتبطان بهذا الذِّكر الذي هو الوحي.
﴿عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا﴾ أي: إعذارًا للناس لئلَّا يعتذروا بالجهل وعدم وصول الرسالة إليهم، وإنذارًا للمعاندين والمكذِّبين.
﴿فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ﴾ ذهب ضوءُها.
﴿وَإِذَا ٱلسَّمَاۤءُ فُرِجَتۡ﴾ أي: انشقّت، كما قال تعالى في سورة الانشقاق: ﴿إِذَا ٱلسَّمَاۤءُ ٱنشَقَّتۡ﴾ [الانشقاق: 1].
﴿وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ ﴾ اقتُلِعت من أماكنها فصارت هباءً مُنبثًّا.
﴿وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ ﴾ أي: وُضع لهم وقتٌ محدّدٌ للفصل بينهم وبين أقوامهم؛ ولذلك قال بعدها: ﴿لِأَیِّ یَوۡمٍ أُجِّلَتۡ ﴿١٢﴾ لِیَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ﴾.
﴿وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ﴾ سؤالٌ قُصِد به التنبيه إلى هَول ذلك اليوم وخطره.
﴿أَلَمۡ نُهۡلِكِ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿١٦﴾ ثُمَّ نُتۡبِعُهُمُ ٱلۡـَٔاخِرِینَ﴾ أي: أهلَكنا أُمَمًا مُتقدِّمة كقوم نوحٍ، وأُمَمًا متأخرة كفرعون وجُنده.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ نَفۡعَلُ بِٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ تهديدٌ للمجرمين المعاصرين لنزول هذه الآيات بأنَّ هذا الإهلاك سنَّة من سُنن الله في الظالمين والمكذِّبين.
﴿أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ﴾ هو المنِيُّ الذي يستقذر منه، كيف خلق الله منه إنسانًا سويًّا عقلًا وجسمًا، وروحًا وفكرًا.
﴿فَجَعَلۡنَـٰهُ فِی قَرَارࣲ مَّكِینٍ ﴿٢١﴾ إِلَىٰ قَدَرࣲ مَّعۡلُومࣲ﴾ أي: فجعلناه في الرحِم، وهو المكان المُهيّأ له، ليستقرَّ فيه إلى حينٍ، فينمو ويقوَى حتى يتكامل خلقه.
﴿فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَـٰدِرُونَ ﴾ هنا يُمجِّدُ الله نفسَه، وينبِّهُ إلى آثار قدرته في هذا الخلق ـ.
﴿أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا ﴿٢٥﴾ أَحۡیَاۤءࣰ وَأَمۡوَ ٰ⁠تࣰا﴾ الاستِفهام هنا تقريري؛ بمعنى أنّه يُثبِت ما بعده، فالله جعل الأرض كفاتًا؛ أي: محلًّا ووعاءً للناس، يحملُ أحياءهم ويضمُّ أمواتهم، وتتعاقب عليه الأجيال جيلًا بعد جيل.
﴿وَأَسۡقَیۡنَـٰكُم مَّاۤءࣰ فُرَاتࣰا﴾ أي: عَذبًا.
﴿وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٢٨﴾ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ﴾ أي: انطَلِقوا إلى النار التي كنتم تُكذِّبون بها، ومعنى الانطلاق هنا: استِجابتهم القَسريَّة لسَوق الملائكة لهم.
﴿ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلࣲّ ذِی ثَلَـٰثِ شُعَبࣲ﴾ هذا الظلُّ هو دخان جهنَّم المُنبعث عن جانبيها ومن وسطها، وتسميته بالظلِّ على سبيل التهكُّم، كاستعمال التبشير في التهديد الوارد في قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ﴾، فهم هناك كأنَّهم يبحثون عن ظلٍّ يستظلُّون به، فيقال لهم: انطلقوا إلى ذلك الظلِّ.
﴿لَّا ظَلِیلࣲ وَلَا یُغۡنِی مِنَ ٱللَّهَبِ ﴾ أي: هذا الدخان المُتصاعد فوقهم لا يظلّهم من حرٍّ، ولا يَقِيهم من اللهب.
﴿إِنَّهَا تَرۡمِی بِشَرَرࣲ كَٱلۡقَصۡرِ﴾ الشَّرَرُ: هو المتطاير من النار، ومفرده شَرَارَة، وقد شبَّهه بمفردٍ وهو القَصْر، والظاهر أنّ القَصْر قُصِدَ به جنس القُصُور، فيكون معناه جمعًا، كما نستعمل الكتاب بمعنى الكتب، والقَصْر: البناء الفخم العالي، فالشَّرارةُ الواحدة في جهنَّم تكون بحجم القَصْر، والعياذ بالله.
﴿كَأَنَّهُۥ جِمَـٰلَتࣱ صُفۡرࣱ﴾ هذا تشبيهٌ آخر يقرِّبُ فيه صورةَ الشَّرَر المُتطاير بالإبل، والصُّفْر قد يكون لونًا للمشبَّه، وقد يكون لونًا للمشبَّه به، والمؤدَّى مُتقارب.
﴿هَـٰذَا یَوۡمُ لَا یَنطِقُونَ ﴾ وهو يومٌ مخصوصٌ من أيَّام الآخرة، وإلَّا فقد ورد في آياتٍ أخرى أنَّ أهل النار يتكلّمون ويتلاومون ويستغيثون، وفيه أنّ أحوال الآخرة ليست حالة واحدة، والله أعلم.
﴿وَلَا یُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَیَعۡتَذِرُونَ﴾ فقد ذهب وقت الاعتذار والندم.
﴿هَـٰذَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ۖ﴾ أي: يوم الحكم الذي يَفصِل بين أهل الحقِّ وأهل الباطل.
﴿جَمَعۡنَـٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِینَ﴾ ولذلك يُسمّى يوم الجمع؛ حيث تجتمع الأجيال كلّها على صعيدٍ واحدٍ، وفي يومٍ واحدٍ.
﴿فَإِن كَانَ لَكُمۡ كَیۡدࣱ فَكِیدُونِ﴾ هذا على سبيل التعجيز والتهكُّم، يُذكِّرهم بكيدهم الذي كانوا يكيدون به المسلمين.
﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی ظِلَـٰلࣲ وَعُیُونࣲ﴾ ذِكْرُ الظلال هنا مقصودٌ لتقريع المشركين وزيادة تحسُّرهم حينما يقارنون بين ظِلِّهم ذي الشعب الثلاث المُنبعِث من جهنَّم، وبين ظِلال الأُنس والنعيم هذه.
﴿كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِیۤـَٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي؛ إذ النعيم كان مقابل العمل، وليس مقابل اللون والجنس والنسب مما يتفاخر به الناس، وفيه أيضًا تعريضٌ بالمشركين الذين أوردوا أنفسهم هذا المورد، وكان باستطاعتهم أن يعملوا كما عمل هؤلاء المتقون.
﴿وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ ﴿٤٥﴾ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِیلًا﴾ أي: إلى أن يَحِينَ الأجلُ المُسمَّى لكم، والأمرُ بالأكل والتمتُّع يُقصَد به التهديد لا الطلب.
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا یَرۡكَعُونَ ﴾ تقريعٌ آخر لأولئك المكذِّبين، بمعنى أنّهم لم يُطلب منهم ما يصعب فعله، ولا ما يصيبهم بالمشقّة والضرر، فكلّ ما طُلب منهم لكي يتّقوا هذا العذاب الشديد أن يؤمنوا بالله ويعبدوه وحده.
﴿فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَهُۥ یُؤۡمِنُونَ ﴾ بمعنى أنّ القرآن قد جاء بكلِّ البراهين والأدلة القاطعة التي تقوم بها الحجة، فإذا لم يؤمنوا به فإنَّهم لن يؤمنوا بأي حديثٍ آخر؛ لأنَّه ليس هناك أسمى من القرآن ولا أقوى حجّةً منه.
وفيه أنّ هؤلاء المُكذِّبين ليست مُشكلتهم في الدليل، ولا في المعاني، ولا الْتِباس الأمور عليهم، بل هم مُعانِدون وحاسِدون ومُتكبِّرون.