سورة الأنفال تفسير مجالس النور الآية 1

یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنفال

المجلس الخامس والسبعون: يوم الفرقان


من الآية (1- 19)


الموضوع الأساس لسورة الأنفال هو معركة بدر، ولذلك فهي من أوائل السور المدنيَّة، وقد تخصّصت في الشأن العسكري عقيدةً وتربيةً وتجربةً وأحكامًا، إنها تتحدَّث عن الجيش، وليس عن المجتمع المدني، وهذه النقطة جديرة بالملاحظة لكلِّ من يريد أن يفهم طبيعة هذا الدين؛ لأن الخلط بين الفقه العسكري والفقه المدني قد ولَّد إشكالات كثيرة لدى الباحثين والمهتمِّين فضلًا عن غيرهم.
في الدرس الأول تتحدَّث الآيات عن معركة بدر من حيث فلسفتها الكليّة وعمقها الثقافي والحضاري ومسوغاتها وأهدافها، إنها الأسس المبدئيَّة التي ينبغي استحضارها قبل الدخول في مجريات المعركة وأحداثها وأحكامها التفصيليَّة:
أولًا: إنها معركة عقيدة ومبدأ، لا معركة مصالِح ومكاسِب، إنها معركة المؤمنين حقًّا ﴿ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِیَتۡ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ ﴿٢﴾ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ في مُقابل الكافرين المجرمين الذين ﴿شَاۤقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَمَن یُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾.
ثانيًا: إن الله تولَّى أمرَ المؤمنين في هذه المعركة، فأمَدَّهم بأسباب النصر ومقوِّماته ﴿إِذۡ تَسۡتَغِیثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّی مُمِدُّكُم بِأَلۡفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُرۡدِفِینَ﴾، ﴿إِذۡ یُوحِی رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ أَنِّی مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ﴾ ومع الملائكة كانت المؤيِّدات الأخرى ﴿إِذۡ یُغَشِّیكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةࣰ مِّنۡهُ وَیُنَزِّلُ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ لِّیُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَیُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ وَلِیَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَیُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ﴾ ثم بعد كلِّ هذا يأتي التأكيد الربَّاني أن الله تبارك وتعالى هو الذي قتل الكافرين وردَّ كيدهم ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾.
إن القرآن هنا يُؤسِّس لمعنًى جديد في القتال يختلف عن ذلك القتال الذي يألَفُه الناس، إنه القتال الذي يربِط عالم الغيب بعالم الشهادة، وهذا الربط له ظلاله في طبيعة القتال وأساليبه وآدابه وأسبابه ونتائجه، القتال الذي يحرص فيه المقاتل أن ينقذ عدوَّه من وحل الشرك والشرِّ والمصير البائس إلى الرحمة والعدل وجنَّة الخُلد مهما كان جنس هذا العدو وشكله ولونه.
وهو ليس قتالًا من أجل الإكراه على الدين ﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ﴾ [البقرة: 256]، بل هو لرفع الظلم والأغلال التي تقيِّد حريَّات الناس في خياراتهم وقراراتهم، ثم بعد هذا يتحمل كلُّ إنسان مسؤوليَّتَه، إنه قتال ليس لكلِّ المخالفين أو الكافرين، وإنما هو لمن ﴿شَاۤقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ﴾ ظلمًا وعدوانًا حتى منعوا الناس من سماع القرآن، ومنعوا المؤمنين من الصلاة والطواف والجهر بدعوتهم، أما مع غير هؤلاء فالدعوة هي الأصل، وسلاحها البيان والحوار والأخلاق والقدوة الحسنة وليس السيوف والسِّنان، فالسيف ليس وسيلةً للهداية، والذي يهتدي تحت حدِّ السيف ما هو بمُهتدٍ على الحقيقة.
ثالثًا: إن رسالة المعركة كانت لإحقاق الحقِّ وإبطال الباطل ﴿لِیُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَیُبۡطِلَ ٱلۡبَـٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾ وهذا معنًى واسع لم ينتبه له إلا القليل؛ فإحقاق الحقِّ غير الحقِّ، وكذلك إبطال الباطل، فالحقُّ قبل المعركة وبعد المعركة سواء، وكذلك الباطل، لكن الجديد والذي هو غاية المعركة وهدفها الكبير إنما هو (إحقاق الحقِّ) و(إبطال الباطل)، فالحقُّ الذي ليس له سيادة على أرضه هو حقٌّ ضائعٌ، أشبه بالنظريات الفلسفيَّة والأماني الأفلاطونيَّة التي لا وجود لها إلا في بطون الكتب.
إن الدولة الجديدة التي أنشأها الرسول لا يمكن أن تستمر دون فرض سيادتها على الأرض، وقد كان الاختبار الأول لهذه السيادة هو اختراق أبي سفيان وقافلته لأراضي هذه الدولة دون علمٍ ولا إذنٍ، وهو أمرٌ مرفوضٌ لدى كلِّ دول العالم قديمًا وحديثًا، من هنا كان اعتراض القافلة، ولو مرَّت القافلة دون اعتراض فلن يكون هناك معنًى لهذه الدولة الجديدة.
قيادة قريش أدركَت هذا المغزى ووصَلَتها هذه الرسالة، فتجهَّزَت للردِّ وليس لحماية القافلة فقط؛ ولذلك قال أبو جهل بعد سماعه بخبر نجاة القافلة: (والله لا نرجِع حتى نرِدَ بدرًا، فننحر الجَزُور، ونشرب الخمر، فتسمع بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا).
فالهيبة هي هاجس أبي جهل وليس العِير، ووجود دولة تتحكم في الطرق التجارية بين مكة وبلاد الشام يخدِش هذه الهيبة، وعلى هذا اندَلَعَت المعركة لتُقرِّر في النهاية لمَن السِّيادة على هذه الأرض، ثم تبِعَتْها سلسلةٌ من المعارك، حتى أقرَّت قريشٌ بسيادة المسلمين على أرضهم في صلح الحديبية، فكان بذلك الفتح المبين.
رابعًا: تعظيم المعركة وتنقِيَتها من الشبهات والشائِبات؛ حيث إن اعتراض القافلة قد يلتبِس بالأغراض الماديَّة الصغيرة؛ ولذلك استهل القرآن هذه السورة بقوله: ﴿یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ﴾ وهي الأموال المُحصَّلة بعد الحرب، فكان الجواب سريعًا ومقتضبًا: ﴿قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ﴾.
فالمعركة ليست معركة غنائم وأنفال، ولا استرجاع حقوقٍ ماليَّة اغتصَبَتْها قريشٌ من المهاجرين، كما يُوهِم كلام بعض من كتب في فقه السيرة، والقرآن كأنه يقول هنا للمسلمين: اتركوا الأنفال، فالله سيُمضي بها حكمَه، وهذا المعنى أكَّده بعد بضع آيات: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَیُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَیَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
إن يوم الفرقان لا يمكن أن يكون يومًا لاسترجاع الأموال المغصوبة، أو الثأر لأيام العذاب التي تحمَّلَها المستضعفون في مكة، هذه حقوق نعم؛ لكنها صغيرة جدًّا أمام عظمة يوم الفرقان.
خامسًا: ابتداء التشريع العسكري، ونزول الأحكام العمليَّة المنظِّمة لأداء الجيش وسلوك الجُند ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ زَحۡفࣰا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ﴿١٥﴾ وَمَن یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُۥۤ إِلَّا مُتَحَرِّفࣰا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَیِّزًا إِلَىٰ فِئَةࣲ فَقَدۡ بَاۤءَ بِغَضَبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ﴾.


﴿یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ﴾ الغنائم، واحدها النَّفل وهو الزيادة؛ وسمِّيت بذلك لأنها زيادة على المقصود من الحرب، فالنصر أساسٌ والنفلُ زيادةٌ، والله أعلم.
والفعل (سأل) إذا عُدِّي بنفسه كان معناه: طلب الشيء، وإذا عُدِّيَ بـ (عَن) كان معناه: طلب العلم به، والصحابة  لم يسألوا الأنفالَ، وإنما سألوا عن حُكمها، وهذا هو دَأبُهم في كل ما يستجد لهم.
﴿قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ﴾ أمرها لله، وتنفيذ الأمر موكول لرسول الله ، كأنه أراد تأخيرَ بيان الحكم حتى تستقرَّ الأسس المتينة للتربية الجهاديَّة، والتأخير بحدِّ ذاته تربية وتزكية للنفوس، تسمو بها عن الاهتمام بحطام الدنيا وغنائمها إلى معالي الأمور المتعلقة بأصل البعثة، والغاية الجليلة لهذه الرسالة.
﴿وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ﴾ أمر بإصلاح العلاقة بين المؤمنين، وفيه الإشارة إلى أن التعلق بحطام الدنيا سبب لفساد العلاقة بين الناس.
﴿وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾ تعظيمًا لله، وهذا واحدٌ من الأعمال القلبيَّة الجليلة المنبثقة عن الإيمان.
﴿زَادَتۡهُمۡ إِیمَـٰنࣰا﴾ الإيمان واحد، لكنَّ حضوره في القلب متفاوت، وآثاره في الخُلق الباطن والسلوك الظاهر متفاوتة أيضًا، وبقدر ذكر الله وتدبُّر آياته يكون المؤمن أقدَرَ على استحضار الإيمان وجَنْي ثماره المرجوَّة.
﴿وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ ذِكْر الإنفاق عقب الحديث عن الغنائم فيه دلالة تربويَّة دقيقة لا تخفى على متدبِّر.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقࣰّاۚ﴾ هم المؤمنون الصادقون الذين تظهر عليهم آثار الإيمان.
﴿كَمَاۤ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَیۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ﴾ أخرجك من المدينة إلى مياه بدر.
﴿وَإِنَّ فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ لَكَـٰرِهُونَ﴾ كارهون لمواجهة قريش من دون إعداد واستعداد؛ حيث إن كثيرًا منهم قد خرجوا لاعتراض القافلة فلم يأخذوا أُهبَتَهم للقتال الحقِّ.
﴿یُجَـٰدِلُونَكَ فِی ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَیَّنَ كَأَنَّمَا یُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ﴾ لضعف استعدادهم؛ ولأنها أول مواجهة لهم، وهذه من صفات النفس البشرية، لكنها صورة تقابلها صورة أخرى عبَّر عنها أشدَّاءُ الصحابة ، كما هو مُفصَّلٌ في كتب السيرة، كمقولة سعد والمقداد وغيرهما.
﴿إِحۡدَى ٱلطَّاۤىِٕفَتَیۡنِ﴾ العير أو النفير.
﴿غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ﴾ العير؛ لأنها غنيمة سهلة، والشوكة: القوة.
﴿وَیَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ آخرهم، ويعني استئصال الكفر من الجزيرة، وقد تحقق بالفعل كما أخبر سبحانه.
﴿إِذۡ تَسۡتَغِیثُونَ رَبَّكُمۡ﴾ بعد التردُّد والمجادلة، لجأ المسلمون إلى الله، وهذا هو دأب المسلم الحقِّ؛ يسأل ويناقش ويجادل، فإذا عزم الأمر انتهى كلُّ شيء، وباشر بالتنفيذ مع الاستعانة بالله، فهو مصدر كلِّ قوة.
﴿مُرۡدِفِینَ﴾ مددًا وسندًا لكم، فالصحابة أصلُ الجيش، والملائكة تبعٌ لهم، كما يتبع الرديف صاحبه، وهذا أَولَى من تفسيره بالمُتتابِعِين، والله أعلم.
﴿وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَىِٕنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ﴾ لأن الإنسان يأنَس بالأسباب ويطمئن لها، كما يأنَس الظمآن بالماء، وهذه فطرة لا تعارض أصل الإيمان.
﴿إِذۡ یُغَشِّیكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةࣰ مِّنۡهُ﴾ فلا ينعس في وقت الشدَّة إلا من اطمأنَّ قلبُه، فالنعاس دليل الاطمئنان، وهو كذلك يعيدُ للجسم نشاطَه، بخلاف الذي يبقى ساهرًا قلِقًا على وتيرةٍ واحدةٍ.
﴿وَیُنَزِّلُ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ لِّیُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَیُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ﴾ من مؤيدات الله أيضًا لتلك الثلَّة المباركة؛ حيث أذهب عنهم بماء السماء ما علِقَ بهم من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، فتطهروا وابتهجوا، ولا شكَّ أن هذا الاستبشار والابتهاج بنزول الغيث يترك أثَرَه الطيب في النفوس، ويُسهِم بتنظيف القلوب من وساوِسِ الشيطان وكدوراته.
﴿فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانࣲ﴾ تعليم للملائكة؛ لأنهم لم يكونوا على علم بقتال الآدميين، وفيه إشارة إلى ضرب مكامن الخطر؛ الرأس الذي هو مصدر القرار، واليد التي هي مقبض السلاح، بلا مُثْلة ولا تمزيق للجسد؛ لأن هذه كلها من بواعث التشفي والحقد الكريه، وليست من أخلاق المؤمنين.
﴿فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ﴾ أي: لا تنهزموا وتُعطُوا الأعداء ظهوركم.
﴿إِلَّا مُتَحَرِّفࣰا لِّقِتَالٍ﴾ استثناءٌ أول من النهي، وهو صورة المقاتل الذي يفرُّ ويكرُّ، ويتنقل في الميدان بحسب ما تقتضيه ضرورة المعركة.
﴿أَوۡ مُتَحَیِّزًا إِلَىٰ فِئَةࣲ﴾ استثناءٌ ثانٍ، وصورته الانسحاب من المعركة إلى مكان يحتشد فيه المسلمون لتنظيم صفوفهم، فهذا وذاك من الصور المشروعة التي لا تدخل في النهي، وهما يصلُحان للقياس في كلِّ ما ظاهره الفرار، وقصده النكاية بالعدوِّ، والله أعلم.
﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ﴾ لأن الله هو الذي أعطاكم القوة، وأيَّدَكم بأسباب الثبات والنصر.
﴿وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ النفي ليس مسلَّطًا على أصل الرمي، فالرمي قد حصل منه لكنه مسلَّط على آثاره، فالآثار التي ترتَّبَت على هذا الرمي كانت بالتدخُّل الرباني وليس بصورة الرمي الظاهرة، فالتراب الذي ألقاه عليهم رسول الله لم يكن ليصِلَ إلى عيونهم لولا إرادة الله وحده.
﴿وَلِیُبۡلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡهُ بَلَاۤءً حَسَنًاۚ﴾ إشارة إلى أن كلَّ نعمةٍ في هذه الدنيا تحمِلُ معنى الابتلاء؛ فالصحة ابتلاء، والغنى ابتلاء، والنصر ابتلاء، لكنها ابتلاءات حسنة؛ لما فيها من نعيم وبهجة ولذَّة، بخلاف المرض والفقر والنكبة، والعاقبة في كلِّ ذلك لمن صبَرَ وشكَرَ.
﴿مُوهِنُ كَیۡدِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ مضعفهم وذاهب بقوتهم ومكرهم.
﴿إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَاۤءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ﴾ الخطاب للمشركين على صيغة التهكُّم، والفتح: النصر والغلبة والسيادة، وهذا هو الذي قصَدُوه من الحرب بعد نجاة قافلتهم.
﴿وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ﴾ إن عُدتم لمحاربة النبي عُدنا لمناصرته، وفيه إشارة أن مَن عادى رسول الله فهو مخذولٌ لا محالة عاجلًا أو آجلًا.