سورة الأنفال تفسير مجالس النور الآية 48

وَإِذۡ زَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡیَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّی جَارࣱ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَاۤءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ وَقَالَ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّنكُمۡ إِنِّیۤ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ ﴿٤٨﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنفال

المجلس السابع والسبعون: بيان المعركة


من الآية (39- 54)


أولًا: إن الصراع بين الفئتَين كان صراعًا حتميًّا، وهو أشبه بصراع الوجود ﴿وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ وَیَكُونَ ٱلدِّینُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ﴾ فوجود قريش في مكة وسيطرتها على البيت وهيمَنَتها على القبائل العربية، مع إصرارها على الشرك وعبادة الأصنام ومحاربة التوحيد وأهله، كلُّ هذا يجعل من الصدام مسألة وقتٍ لا أكثر.
ثانيًا: إن الأمور كلها كانت تدفَع الفريقَين باتجاه المصادمة لحكمةٍ قدَّرَها الله سبحانه، فقد رآهم النبيُّ في منامه قليلًا ﴿إِذۡ یُرِیكَهُمُ ٱللَّهُ فِی مَنَامِكَ قَلِیلࣰاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِیرࣰا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ﴾ ثم قلَّلهم في نظر المؤمنين عند اللقاء، وقلَّل المؤمنين في نظر المشركين ﴿وَإِذۡ یُرِیكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَیۡتُمۡ فِیۤ أَعۡیُنِكُمۡ قَلِیلࣰا وَیُقَلِّلُكُمۡ فِیۤ أَعۡیُنِهِمۡ لِیَقۡضِیَ ٱللَّهُ أَمۡرࣰا كَانَ مَفۡعُولࣰاۗ﴾ وكان هناك من يُحرِّض المشركين ويُشجِّعهم ﴿وَإِذۡ زَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡیَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّی جَارࣱ لَّكُمۡۖ﴾.
ثالثًا: إن معسكر المسلمين كان في طرف الوادي مما يَلِي المدينة، ومعسكر المشركين كان في الطرف الآخر الأبعَد عن المدينة ﴿إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ﴾ وهو وصفٌ لموقع المعركة.
أما القافلة فقد سلَكَ بها أبو سفيان جنوبًا باتجاه مكة ﴿وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ﴾ وفيه إشارة أن المسلمين كانوا قد اتَّخَذُوا موقعًا دفاعيًّا يتمكَّنُون فيه من صَدِّ المشركين في حال إغارَتهم على المدينة.
رابعًا: إن التعبِئة الجهاديَّة كانت تقومُ على أساس الإيمان بالله، ووحدة الصف والثبات في الميدان ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا لَقِیتُمۡ فِئَةࣰ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ﴿٤٥﴾ وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَـٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِیحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ بينما كانت تعبئة جيش المشركين تقوم على أساس الرياء والبطر والصدِّ عن سبيل الله ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ خَرَجُواْ مِن دِیَـٰرِهِم بَطَرࣰا وَرِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ﴾.
خامسًا: إن الله قد نصَرَ المؤمنين وهزَمَ الكافرين، فكان يوم بدر هو يوم الفرقان ﴿إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾.
وقد نكص الشيطان يومئذٍ على عقِبَيْه، وتبرَّأ من المشركين بعد أن وعَدَهم بالنصر والغَلَبَة ﴿فَلَمَّا تَرَاۤءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ وَقَالَ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّنكُمۡ إِنِّیۤ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾.
سادسًا: إن مصير قريش هذا هو مصير الباطل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، مهما تعدَّدت أسماؤه واختلفت أشكاله ﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُواْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ﴾، ﴿فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلࣱّ كَانُواْ ظَـٰلِمِینَ﴾.
سابعًا: التحذير من دور النفاق والذين في قلوبهم مرض، وهم العدوُّ الداخلي الذي لا يحمل السلاح وإنما يحمل الدسائس والتشكيك، وإثارة الفتن، وتثبيط العزائم ﴿إِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ دِینُهُمۡۗ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾.
ثامنًا: إن غنائم المعركة ينبغي أن تكون لها وظيفة في التنمية والتكافل وسدِّ حاجات المجتمع ﴿۞ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ﴾ وهو جوابٌ للسؤال الذي استهلَّت به السورة: ﴿یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ﴾ وقد أُخِّر حتى نهاية بيان المعركة، والله أعلم.


﴿حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ﴾ الفتنة: اسمٌ جامعٌ للشرِّ، شرُّ الدين بالكفر والشرك، وشرُّ الدنيا بالظلم والفوضى والفساد.
﴿وَیَكُونَ ٱلدِّینُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ﴾ الدين لله من قبل ومن بعد، وإنما المقصود خضوع الأرض لهذا الدين، وقبولها لهذه الرحمة.
﴿۞ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم﴾ من أموال المُحارِبين.
﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ﴾ على سبيل التشريف، وإلا فإن الدنيا والآخرة لله، فما ينفق على الفقراء والمساكين والأمور العامة كأنه أُعطِي لله سبحانه.
﴿یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ﴾ يوم بدر؛ لأنه فرَّق بين الحقِّ والباطل، وفرَّق بين مرحلة الاستضعاف ومرحلة السيادة والتمكين.
﴿بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡیَا﴾ طرف الوادي الأقرب.
﴿مَفۡعُولࣰا لِّیَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَیِّنَةࣲ وَیَحۡیَىٰ مَنۡ حَیَّ عَنۢ بَیِّنَةࣲۗ﴾ الهلاك بالكفر والعناد بعد قيام الحجة، والحياة بالإيمان بعد وضوح الحجَّة والاهتِداء بها.
﴿وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِیرࣰا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ﴾ يعني: لو أن النبيَّ رآهم في منامه كثيرًا، وقصَّ هذه الرؤيا على المسلمين، لداخَلَهم الخوف والهلع، ولاختلفوا في الخروج، وفيه إشارةٌ لدور الشورى وتأثيرها في القرار.
﴿فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا﴾ إشارةٌ إلى أن الذكر عبادة لا تنفصل عن الحياة، بل هو ضرورةٌ لها؛ لأنه يمنحها القوَّة والعزيمة والثبات.
﴿وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَـٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ﴾ دلالة أن ترك الطاعة لله جهلًا أو عنادًا يؤدِّي إلى التنازع، والتنازع يؤدِّي إلى الفشل، فالتربية الصحيحة أصلٌ للوحدة، والوحدة أصلٌ للنجاح، والمجتمع الفاشل لا بدَّ أن يبحث في كلتا المقدِّمَتَين.
﴿وَتَذۡهَبَ رِیحُكُمۡۖ﴾ تزول قوّتُكم، ويُمحَى اسمُكم.
﴿خَرَجُواْ مِن دِیَـٰرِهِم بَطَرࣰا وَرِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ﴾ هم المشركون الذين خرجوا من مكة بالخمر والقِيَان؛ اغتِرارًا بقوتهم واستهانة بخصمهم، وطلبًا للسمعة والفخر وبقاء هيبتهم في نفوس العرب.
﴿نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ﴾ ولَّى هاربًا مذعورًا وترك عهوده ووعوده.
﴿إِنِّیۤ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ﴾ يعني: الملائكة؛ لأن الشيطان كان يراهم ويعرفهم.
﴿إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَۚ﴾ ليس خوف التقوى والتعبُّد، بل خوف الجاحد الحاسد الذي يعرف مصيره بعد عصيانه وتكبُّره.
﴿غَرَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ دِینُهُمۡۗ﴾ أصابَهم بالغرور، ودفَعَهم لمواجهةٍ غير محسوبة، والقصد التشكيك والتثبيط، وهو دور النفاق في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
﴿یَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَـٰرَهُمۡ﴾ صورة من صور الخزي التي تنتظر الكافرين يوم القيامة، وهي الصورة المناسبة لما كانوا عليه من العناد والتكبُّر وتصعير الخدِّ، وهذا أقربُ من القول أن هذا كان يوم بدر؛ لأن الملائكة علَّمَهم الله أن يضربوا فوق الأعناق، ويضربوا كلَّ بنان.
ثم إن كلمة ﴿یَتَوَفَّى﴾ أقرب للمعنى الأخروي، وقد تقدَّمَت على الضرب، فالضرب حاصلٌ عند الوفاة، والله أعلم
﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ﴾ الدأب هو الشأن المعتاد والمتكرّر.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ یَكُ مُغَیِّرࣰا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ دلالة على أن تغيير النعمة عقوبة، والعقوبة لا تكون إلا بذنب، والظاهر أن النعمة هنا جاءت بمعناها الشامل، أما العوارض والحوادث التي تصيب الناس من صحةٍ ومرضٍ وغنًى وفقرٍ فهذا يحتمل العقوبة، ويحتمل الابتلاء والاختبار، وهو ماضٍ وفق عالم الأسباب وسنن الله وقوانينه في هذه الحياة.
﴿كَفَرُواْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ﴾، ﴿كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ﴾ فسَّرَ الكفر بالتكذيب، والأخذ بالهلاك، ثم ذكَّر بأن الله الذي كفروا به إنما هو ربُّهم الذي يخلقهم ويرزقهم، وهكذا يفسِّر القرآن بعضُه بعضًا بنسَقٍ بنائيٍّ تكامليٍّ.