سورة عبس تفسير مجالس النور الآية 42

أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ ﴿٤٢﴾

تفسير مجالس النور سورة عبس

المجلس الرابع والسبعون بعد المائتين: قصة الرجل الأعمى


سورة عبس


لا تختلف هذه السورة عن سابقتيْها من حيث تأكيدها لعقيدة اليوم الآخر وما فيه من أهوالٍ وأحوالٍ، وحسابٍ وجزاءٍ، فهذا هو موضوعها الأساس، لكنها تميَّزَت باستهلالها بذِكر موقفٍ للرسول آثَرَ فيه أن يتحدَّث إلى كبار قريش وأولئك المؤثّرين في مجتمعهم عِوَضَ أن ينشغل برجلٍ أعمى جاء يسأله عن دينه ويتعلَّم منه، ولا شكَّ أنَّ هذا الرجل سيجِد في نفسه شيئًا، فجاء صدرُ هذه السورة مُخصَّصًا له؛ ولتكون قيمة جديدة من القِيَم التي يرسّخها الإسلام لبناء المجتمع الصحيح.
ويمكن تلخيص ما ورد في هذه السورة المباركة بالنقاط الآتية:
أولًا: استهلَّت السورة بقصة الرجل الأعمى؛ إذ جاء إلى النبيّ قاصدًا له يسأله في أمور دينه، فأعرَضَ عنه النبيُّ ، وانشغل بغيره من كبراء القوم، وكان هذا اجتهادًا منه لعلَّ الله ينفع بهؤلاء الدعوة ويُقوِّي من عُودها، وليدفع عن أصحابه شرَّ ما يتعرّضون له على أيديهم من التعذيب والتنكيل، لكن الله  عاتبه على ذلك، مبيّنًا لقاعدةٍ مبدئيَّةٍ من قواعد التعامل مع الناس ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰۤ ﴿١﴾ أَن جَاۤءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُۥ یَزَّكَّىٰۤ ﴿٣﴾ أَوۡ یَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰۤ ﴿٤﴾ أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ ﴿٦﴾ وَمَا عَلَیۡكَ أَلَّا یَزَّكَّىٰ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَن جَاۤءَكَ یَسۡعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ یَخۡشَىٰ ﴿٩﴾ فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ﴾.
ثانيًا: بيَّنت السورة أنَّ هذه الآيات التي عاتَبَ الله بها نبيَّه إنَّما هي موعظةٌ ودرسٌ لكلِّ مُصلِحٍ وداعٍ إلى الخير، وأنّ هذه الآيات من كلام الله المحفوظ والمُنزَّه عن الزيادة والنقص، والذي تنزل به الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ﴿كَلَّاۤ إِنَّهَا تَذۡكِرَةࣱ ﴿١١﴾ فَمَن شَاۤءَ ذَكَرَهُۥ ﴿١٢﴾ فِی صُحُفࣲ مُّكَرَّمَةࣲ ﴿١٣﴾ مَّرۡفُوعَةࣲ مُّطَهَّرَةِۭ ﴿١٤﴾ بِأَیۡدِی سَفَرَةࣲ ﴿١٥﴾ كِرَامِۭ بَرَرَةࣲ﴾.
ثالثًا: تُظهر السورة التعجُّب من كُفر الكافر بربِّه وهو الذي خلقه من نطفةٍ مهينةٍ حتى أمدَّه بأسباب الحياة والقوّة، ثُمّ يسلب منه هذه الحياة فيكون جثةً يُسارِعون بها إلى القبر، ثُمّ ينشُره بعد ذلك، وهو عن كلِّ هذا لاهٍ ساهٍ غافل، لا يعِي ولا يُفكِّر، ولا يُؤدِّي ما عليه، ولا يعمل لما خُلِق له ﴿قُتِلَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَاۤ أَكۡفَرَهُۥ ﴿١٧﴾ مِنۡ أَیِّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥ ﴿١٨﴾ مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ ﴿١٩﴾ ثُمَّ ٱلسَّبِیلَ یَسَّرَهُۥ ﴿٢٠﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقۡبَرَهُۥ ﴿٢١﴾ ثُمَّ إِذَا شَاۤءَ أَنشَرَهُۥ ﴿٢٢﴾ كَلَّا لَمَّا یَقۡضِ مَاۤ أَمَرَهُۥ﴾.
رابعًا: تدعو السورة هذا الإنسان أن يُفكِّر بآلاء الله ونعمائه التي أنعَمَها عليه، وما فيها من دلائل على قُدرة الله ورحمته وعنايته بهذا الخلق ﴿فَلۡیَنظُرِ ٱلۡإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦۤ ﴿٢٤﴾ أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَاۤءَ صَبࣰّا ﴿٢٥﴾ ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقࣰّا ﴿٢٦﴾ فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا حَبࣰّا ﴿٢٧﴾ وَعِنَبࣰا وَقَضۡبࣰا ﴿٢٨﴾ وَزَیۡتُونࣰا وَنَخۡلࣰا ﴿٢٩﴾ وَحَدَاۤىِٕقَ غُلۡبࣰا ﴿٣٠﴾ وَفَـٰكِهَةࣰ وَأَبࣰّا ﴿٣١﴾ مَّتَـٰعࣰا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَـٰمِكُمۡ﴾.
خامسًا: تختتم السورة بذِكر الآخرة وما فيها من أهوالٍ؛ حيث يفرُّ المرء من أقرب الناس إليه، وحيث ينقسم الناس إلى فائزين مُستبشرين، أو هالكين مُعذَّبين ﴿فَإِذَا جَاۤءَتِ ٱلصَّاۤخَّةُ ﴿٣٣﴾ یَوۡمَ یَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِیهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِۦ وَأَبِیهِ ﴿٣٥﴾ وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَبَنِیهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ شَأۡنࣱ یُغۡنِیهِ ﴿٣٧﴾ وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ مُّسۡفِرَةࣱ ﴿٣٨﴾ ضَاحِكَةࣱ مُّسۡتَبۡشِرَةࣱ ﴿٣٩﴾ وَوُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذٍ عَلَیۡهَا غَبَرَةࣱ ﴿٤٠﴾ تَرۡهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿٤١﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ﴾.


﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰۤ ﴿١﴾ أَن جَاۤءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ﴾ أي: تغيَّر وجهُ النبيِّ ، وأعرَضَ لما جاءه الأعمى، والأعمى هو الصحابيُّ الجليلُ عبد الله بن أم مكتوم .
﴿وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُۥ یَزَّكَّىٰۤ﴾ أي: ما يدريك يا محمد لعلَّ هذا الرجل الأعمى الذي أقبَلَ عليك سيتزكَّى بتعليمك له، ويزداد خيرًا وبركةً، فيكون أنفَع لك من الالتفات إلى غيره.
﴿أَوۡ یَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰۤ﴾ أي: يتذكَّر فتنفعه موعظتك.
﴿أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ﴾ أي: أمَّا ذلك المُستكبِر الذي يرى نفسه مُستغنِيًا عن الدعوة وأهلها فأنت تتصدَّى له، وتهتم به.
﴿وَمَا عَلَیۡكَ أَلَّا یَزَّكَّىٰ﴾ بمعنى أنّ هذا المُستكبِر الذي تحرِص أنت على هدايته لا يضرّك بقاؤه على كفره، فأنت لست مسؤولًا عن هدايته إذا بلَّغتَه كما تبلِّغ الناس.
﴿وَأَمَّا مَن جَاۤءَكَ یَسۡعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ یَخۡشَىٰ﴾ هذه تزكيةٌ لابن أم مكتوم، وشهادةٌ له من ربِّ السماوات والأرض، فهنيئًا له.
﴿فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ﴾ أي: تتلهَّى عنه، وتهتم بغيره.
وهنا مسألةٌ، وهي أنَّ هذا العتاب لا يعني النهي عن الاهتمام بأُولِي الشأن ممن تكون هدايتهم سببًا في هداية غيرهم، وتعميم الخير في البلاد؛ فهداية الحاكم أنفع بلا شكٍّ للدعوة وللناس من هداية الآحاد من الناس، وقد أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون وخصَّه بالذكر لهذا الغرض، ولكن العِتاب مُتّجهٌ للانتباه إلى مراعاة حال الأعمى ونحوه من المُعاقِين أو المُعوَزين، وفيه أيضًا التعريض بذلك الذي استغنى عن الدعوة وتكبَّر عليها، والله أعلم.
﴿كَلَّاۤ إِنَّهَا تَذۡكِرَةࣱ ﴿١١﴾ فَمَن شَاۤءَ ذَكَرَهُۥ﴾ أي: هذه الآيات إنّما هي تذكيرٌ وموعظةٌ لمَن شاء أن يتذكَّر ويتَّعِظ.
﴿فِی صُحُفࣲ مُّكَرَّمَةࣲ﴾ أي: أنّ هذه الآيات موجودة في كتاب الله، وهي من كلامه سبحانه المحفوظ عنده تعالى، والمحفوظ في المصاحف العزيزة الكريمة.
﴿مَّرۡفُوعَةࣲ مُّطَهَّرَةِۭ﴾ أي: عالية القدر، ومحفوظة من العبث بالزيادة أو النقص.
﴿بِأَیۡدِی سَفَرَةࣲ ﴿١٥﴾ كِرَامِۭ بَرَرَةࣲ﴾ والسَّفَرةُ تحتمل معنَيَين: أنَّهم الكَتبة الذين يكتبون الوحي، أو السفراء وهم الملائكة الذين يتنزَّلون بهذا الوحي، وكلاهما كرامٌ برَرَة.
﴿قُتِلَ ٱلۡإِنسَـٰنُ﴾ هذه صيغةٌ من صيغ الدعاء، والمقصود بها إثارة الانتباه لخطورة ما بعده.
﴿مَاۤ أَكۡفَرَهُۥ﴾ صيغةٌ من صيغ التعجُّب، بمعنى أنَّ كفره بالله يقتضي العجب.
﴿مِنۡ أَیِّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥ﴾ أي: ألا يدري هذا الكافر المُتكبِّر مِن أي شيءٍ خلقه الله؟
﴿مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُۥ﴾ هذا الجواب يقصد به تذكير الإنسان بحقيقة خلقه حتى لا يتمادى في كُفرهِ وتكبُّرهِ.
﴿فَقَدَّرَهُۥ﴾ أي: خلقه على مراحل، ولكلِّ مرحلةٍ ما يناسبها.
﴿ثُمَّ ٱلسَّبِیلَ یَسَّرَهُۥ﴾ أي: جعله يشقُّ طريقَه في الحياة؛ فمنحه العقل للاختيار، ومنحه القوة على تحمُّل الأعباء.
﴿ثُمَّ إِذَا شَاۤءَ أَنشَرَهُۥ﴾ أي: بعثه وأحياه بعد موته في الوقت الذي يشاء سبحانه.
﴿كَلَّا لَمَّا یَقۡضِ مَاۤ أَمَرَهُۥ﴾ أي: لم يُوفِّ الإنسان بما عليه من حقوقٍ، ولم يؤدِّ الواجبات التي افترضها الله عليه.
﴿أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَاۤءَ صَبࣰّا﴾ أي: أنزلنا الماء من السماء، وهو ماء المطر.
﴿ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقࣰّا﴾ بالأنهار والجداول، وبالنبات الذي يخرج منها.
﴿فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا حَبࣰّا﴾ كالقمح والشعير والرز والذرة، وهذه هي قوت الناس وقوام غذائهم؛ ولذلك قدّمها.
﴿وَعِنَبࣰا﴾ معروف، وذكره نموذجًا للفاكهة التي تنبتها الأرض.
﴿وَقَضۡبࣰا﴾ النبات الذي تقبض أعواده الرقيقة، فتُجزّ فتؤكل بأعوادها وأوراقها، ثم تنمو من جديد، وهو نوعٌ من الغذاء مختلفٌ عن القُوت، وعن الفاكهة.
﴿وَزَیۡتُونࣰا﴾ الزيتون ثمرة معروفة، وهو نموذجٌ لنوعٍ آخر من الغذاء يخصُّ النبات الذي يُستخلَص منه الزيت.
﴿وَنَخۡلࣰا﴾ وهي الشجرة المعروفة التي تحمِل الرطب؛ وهو غذاءٌ آخر يجمع بين معنى القُوت ومعنى التفكُّه، وقد ذكر النخل لما فيها من فوائد أخرى غير التمر؛ إذ النخلة كلَها فؤائد؛ جذعها وسعفها، وليفها وجُمَّارها.
﴿وَحَدَاۤىِٕقَ غُلۡبࣰا﴾ أي: عظيمة الأشجار، مكتظة الأغصان.
﴿وَفَـٰكِهَةࣰ﴾ إشارة إلى تنوّع أشجار الفاكهة حتى لا تكاد تُحصَى.
﴿وَأَبࣰّا﴾ النبات الذي تأكله الأنعام والبهائم؛ ولذلك قال بعدها: ﴿مَّتَـٰعࣰا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَـٰمِكُمۡ﴾.
﴿فَإِذَا جَاۤءَتِ ٱلصَّاۤخَّةُ﴾ اسمٌ من أسماء يوم القيامة، ومعناه: الصيحة الشديدة التي تصخُّ الأسماع أي: تصمّها.
﴿یَوۡمَ یَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِیهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِۦ وَأَبِیهِ ﴿٣٥﴾ وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَبَنِیهِ﴾ بدأ بالأخ؛ لأنَّه الذي يستنصر به في العادة، بإشارة أنَّه لا ينفع النصير نصيره، ولا العضيد عضيده، ولا ينفع الوالد ولده، ولا المولود والده، ولا الزوج زوجته، ولا الزوجة زوجها، والفرار ليس معناه الهروب، وإنَّما معناه: الإعراض والانشغال، فليس هناك مهربٌ ولا مفرٌّ.
﴿لِكُلِّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ شَأۡنࣱ یُغۡنِیهِ﴾ تفسيرٌ لمعنى الفرار المتقدّم، وتعليلٌ له.
﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ مُّسۡفِرَةࣱ﴾ أي: مشرقة ومنوّرة بنور الإيمان والقبول والرضا.
﴿وَوُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذٍ عَلَیۡهَا غَبَرَةࣱ﴾ أي: يعلوها مثل الغبار مِن أثر الذلَّة والمهانة.
﴿تَرۡهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ تغشاها غاشية من الدخان.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ﴾ أي: أولئك هم الكافِرُون الفاجِرُون.