سورة التكوير تفسير مجالس النور الآية 25

وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَیۡطَـٰنࣲ رَّجِیمࣲ ﴿٢٥﴾

تفسير مجالس النور سورة التكوير


المجلس الخامس والسبعون بعد المائتين: إن هو إلا ذكرٌ للعالمين


إذا كانت سورة عبس تميَّزَت بقصة الأعمى وما تضمَّنَته من تأكيد حق المُعاقين وضمان مساواتهم بالأصحّاء، فإنّ سورة التكوير تميَّزت بذكر قيمةٍ أخرى، هي قيمة المساواة في حقِّ الحياة بين الذكور والإناث، والتنديد بالظلم الواقع عليهنَّ في المجتمع الجاهلي، إضافةً إلى الموضوعَين الإيمانيَّين؛ الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسالة الخاتمة، وكما يأتي:
أولًا: استهلَّت السورة بتناول أحداث اليوم الآخر والانقلابات الكونيَّة التي تنهي هذه الحياة استعدادًا لاستئناف حياةٍ جديدةٍ، وبنواميس وقوانين جديدة متصلة بعقيدة الجزاء والثواب والعقاب ﴿إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ ﴿١﴾ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ ﴿٢﴾ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُیِّرَتۡ ﴿٣﴾ وَإِذَا ٱلۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ ﴿٤﴾ وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ ﴿٥﴾ وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ ﴿٦﴾ وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ ﴿٧﴾ وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُىِٕلَتۡ ﴿٨﴾ بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ ﴿٩﴾ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ ﴿١٠﴾ وَإِذَا ٱلسَّمَاۤءُ كُشِطَتۡ ﴿١١﴾ وَإِذَا ٱلۡجَحِیمُ سُعِّرَتۡ ﴿١٢﴾ وَإِذَا ٱلۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ ﴿١٣﴾ عَلِمَتۡ نَفۡسࣱ مَّاۤ أَحۡضَرَتۡ﴾.
ثانيًا: في قلب تلك الآيات، جاء التنديدُ بالجاهليَّة التي تُميِّز في حقِّ الحياة بين البنين والبنات؛ لتجعل هذه المسألة في صُلب الحديث عن عقيدة الحساب والجزاء؛ تنبيهًا على خطرها، وترهيبًا من التمادي فيها ﴿وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُىِٕلَتۡ ﴿٨﴾ بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ﴾.
ثالثًا: ثم تؤكِّد السورة بالأَيْمان المُغلَّظة أنَّ هذه الرسالة إنَّما هي وحيٌ من الله نَزَلَ به أمين الوحي جبريل عليه السلام؛ ليكون ذكرًا للعالمين، وطريقَ هدايةٍ للمُستهدِين والباحثين عن الحقِّ المبين، مع تزكيته وتزكية الرسالة التي يحمِلها عن كلِّ ما يتقوَّله المتقوِّلُون، ويفتَرِيه المُفتَرون ﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ ﴿١٥﴾ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ ﴿١٦﴾ وَٱلَّیۡلِ إِذَا عَسۡعَسَ ﴿١٧﴾ وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿١٨﴾ إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولࣲ كَرِیمࣲ ﴿١٩﴾ ذِی قُوَّةٍ عِندَ ذِی ٱلۡعَرۡشِ مَكِینࣲ ﴿٢٠﴾ مُّطَاعࣲ ثَمَّ أَمِینࣲ ﴿٢١﴾ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونࣲ ﴿٢٢﴾ وَلَقَدۡ رَءَاهُ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡمُبِینِ ﴿٢٣﴾ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَیۡبِ بِضَنِینࣲ ﴿٢٤﴾ وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَیۡطَـٰنࣲ رَّجِیمࣲ ﴿٢٥﴾ فَأَیۡنَ تَذۡهَبُونَ ﴿٢٦﴾ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٢٧﴾ لِمَن شَاۤءَ مِنكُمۡ أَن یَسۡتَقِیمَ ﴿٢٨﴾ وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.


﴿إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ﴾ أي: أُدرِجت ولُفَّت وانكفأت على داخلها، وذهب ضوءُها، وتحصيل صورة التكوير بالنسبة للشمس مُتعذّرٌ؛ لأنّه من الأخبار الغيبيّة التي ليس لها في الذهن صورة مُسبَقة، والغاية من الإخبار به معلومة، وهي انتهاء دور الشمس لانتهاء الحياة كلّها.
﴿وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ﴾ طُمِسَت وذهب ضوءُها.
﴿وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُیِّرَتۡ﴾ أي: نُسِفَتْ وصارت هباءً.
﴿وَإِذَا ٱلۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ﴾ أي: عطَّل الناس أشغالهم، وأهملوا نفائسَ أموالهم، والعِشار: النُّوق الحوامل التي تُوشِك على الولادة، وكانت هذه محل عناية الناس في جزيرة العرب، لكنَّهم في ذلك اليوم سيتركونها مُهملة.
﴿وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ﴾ أي: جُمِعَتْ في مكانٍ واحدٍ، قد يكون هو أرض المحشر، فهذا أقرب للفظ الحشر، وقد يكون في الدنيا عند الساعة، وهذا أقرب للسياق، وحشرها رُبَّما يكون بسبب ما ينزل في الأرض من كوارث، فتلجأ باحثةً بغريزتها عن أي مكانٍ تظنُّ فيه مأمنها.
﴿وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ﴾ أي: تحوّلَت إلى نارٍ تضطرِم، وهذه من عجائب ذلك اليوم.
﴿وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ﴾ هنا انتقل إلى الحديث عن أحوال البعث والحساب، وأولها: تزويج النفوس، أي: تصنيفها إلى مجموعاتٍ بحسب درجتها؛ فهناك السابقون السابقون، وهناك أصحاب اليمين، وهناك أصحاب الشمال، ثُمّ هؤلاء أيضًا يُقسَّمُون بحسب أنبيائهم وأممهم، والله أعلم.
﴿وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُىِٕلَتۡ ﴿٨﴾ بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ﴾ والموءودة: هي البنت التي قُتِلَتْ بلا ذنبٍ، أو دُفِنت بالتراب وهي حيّةٌ، وهذه عادةٌ جاهليَّةٌ اجتمع على ترسيخها الجهلُ مع الخوف من العار، أو الخوف من الفقر، وسؤالها يوم القيامة إنَّما هو سؤالٌ لوائِدها وتقريعٌ له، وهذه هي المسألة الوحيدة التي عرَضَتها السورة من مسائل الحساب يومئذٍ؛ تنبيهًا لخطرها، وبشاعة جرمها.
﴿وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ﴾ هي صحف الأعمال، فهناك تُنْشَرُ للحساب، ويظهر كلّ ما هو مدوّن فيها.
﴿وَإِذَا ٱلسَّمَاۤءُ كُشِطَتۡ﴾ أي: تشقَّقت، أو كُشِفَتْ وأُزيلت.
﴿وَإِذَا ٱلۡجَحِیمُ سُعِّرَتۡ﴾ أُضرِمَت نيرانها استعدادًا لاستقبال أهلها.
﴿وَإِذَا ٱلۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ﴾ أي: قُرِّبت لأهلها.
﴿عَلِمَتۡ نَفۡسࣱ مَّاۤ أَحۡضَرَتۡ﴾ هذا هو جواب الشرط الذي بدأ بقوله: ﴿إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ﴾ ثم تكرَّر في الآيات التالية، ومعناه أن كل نفس ستعلم ما قدّمته من عمل خيرًا كان أو شرًّا.
﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ ﴿١٥﴾ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ﴾ هو قسَمٌ بالنجوم والكواكب على اختلاف أحوالها، فالخُنَّس من الخَنْس، وهو خفوتها مع بداية النهار، والجَوارِ من الجَرْي؛ أي: سيرها وانتقالها من جهةٍ إلى جهة فيما يرى الناظر بحسب حركة الأرض ودورانها حول نفسها، أمَّا حركتها الذاتيَّة فلها شأنٌ آخر قد يُدركها النظر وقد لا يُدركها، والكُنَّس من الكنس؛ أي: استتارها وحجبها ببعضها.
هذا وقد اكتشف العلم الحديث وجودَ نوعٍ من الأجرام لا تُرى وأطلق عليها (الثقوب السوداء)، وهذه في حالة خفُوتٍ دائمٍ فلا ينبعث منها ضوء، وهي تلتَهِمُ الأجرام الصغيرة التي تمرُّ في مدارها وكأنّها تنظِّف الفضاء من بعض النيازك والشهب والأجزاء المُنفلِتَة، فإنْ كان هذا حقًّا فلا يبعُد أن تكون هي المقصودة؛ لانطباق الصفات عليها أكثر من غيرها، والله أعلم.
﴿وَٱلَّیۡلِ إِذَا عَسۡعَسَ﴾ أي: إذا أقبل بظلامه.
﴿وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أي: خرج ضوءُه وبدَا، وقد شبَّهه بتنفُّس الكائن الحي؛ لأنَّ تنفُّس الصباح هو تنفُّس الحياة وبداية حركتها بعد سُبات الليل.
﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولࣲ كَرِیمࣲ﴾ هذا جواب القسَم، ومعناه: تأكيد أنّ هذا القرآن إنّما هو وحيٌ إلهيٌّ نزل به أمين الوحي جبريل عليه السلام.
﴿ذِی قُوَّةٍ عِندَ ذِی ٱلۡعَرۡشِ مَكِینࣲ﴾ أي: أعطاه الله القوَّة، ومنَحَه المكانة العليَّة عنده سبحانه.
﴿مُّطَاعࣲ ثَمَّ أَمِینࣲ﴾ أي: تُطيعه الملائكة هناك في العالم العلوي؛ لأنّه المتقدّم عليهم، وهو الأقرب فيهم إلى ربّهم، وهو الأمين المؤتمن على أمر الله ووحيه.
﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونࣲ﴾ ردٌّ على شَتم المشركين لرسول الله ، وتوبيخٌ لهم على فِريتهم هذه.
﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡمُبِینِ﴾ هي رؤية سيدنا محمد لملك الوحي جبريل عليه السلام بالصورة التي خلقه الله عليها.
﴿وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَیۡبِ بِضَنِینࣲ﴾ تأكيدٌ لأمانته في تبليغه لرسالة الله كاملة دون نقصٍ، والضَّنِين: الشَّحِيح، وفي هذا تعريضٌ بالكَهَنة الذين كانوا يدَّعون الغيب ثم لا يبُوحُون به إلَّا بقَدر ما يُعطِيهم الناس عليه.
﴿وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَیۡطَـٰنࣲ رَّجِیمࣲ﴾ تمييزٌ للوحي عمّا تقوم به الكَهَنة مِن ادِّعائها الاتصال بالغيب عن طريق الشياطين.
﴿فَأَیۡنَ تَذۡهَبُونَ﴾ سؤالٌ قُصِدَ به تعجيزهم، بمعنى أنَّ كلَّ ما قلتموه في مُحمدٍ وفي رسالته ظهر بطلانه، فماذا تقولون بعد؟ وأي طريقٍ تسلكون؟ ويحتمل أنَّه أراد توبيخهم بمعنى: أين تذهبون عن هذه الحقائق، وفي أي تيهٍ تتَيهُون؟ والمعنيان مُتقاربان.
﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ هذا إعلانٌ مبكِّرٌ لعالميَّة الإسلام، والذِّكرُ بمعنى التذكير والموعظة، ويأتي أيضًا بمعنى الشرف والرفعة.
﴿لِمَن شَاۤءَ مِنكُمۡ أَن یَسۡتَقِیمَ﴾ بمعنى أنَّ السبيل قد وضَحَت بهذا القرآن، ثم الأمر متروكٌ لكم، وكلٌّ مُحاسَبٌ بخياره وقراره، ومجزيٌّ بعمله.
﴿وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ فالله سبحانه بمشيئته المطلقة هو الذي منح الإنسان القدرة على الاختيار، ولو شاء سبحانه لخلقه خلقًا آخر لا يشاء ولا يختار، لكن حساب الإنسان وثوابه وعقابه كلّ ذلك مرتبطٌ بهذه المساحة من الاختيار، والله أعلم.