سورة الانشقاق تفسير مجالس النور الآية 20

فَمَا لَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ ﴿٢٠﴾

تفسير مجالس النور سورة الانشقاق

المجلس الثامن والسبعون بعد المائتين: يا أيها الإنسان!


سورة الانشقاق


سِمةٌ من سِمات القرآن المكِّي: التأكيد والتكرار؛ ذاك لأنَّه يهدِف إلى ترسيخ القيم والمبادئ الكبرى، ومن نماذج هذا التكرار والتأكيد: التشابُه الكبير بين سورتَي الانفطار والانشقاق، في الاستِهلال والمضمون والنداء المُوجَّه إلى هذا الإنسان، الذي يُحمِّلُهُ المسؤوليَّة التكليفيَّة وما ينتج عنها من استحقاقٍ للوعد أو الوعيد، مع بعض اللَّفَتاتِ والمشاهد الجزئيَّة التي تُميِّزُ هذه السورة عن سابقتها، وكما يأتي:
أولًا: استهلَّت السورة بالتنبيه إلى الساعة وانتهاء هذه الحياة، وخضُوع هذا الكون بسمائه وأرضه إلى قَدَر الله المحتوم، وأجله المعلوم ﴿إِذَا ٱلسَّمَاۤءُ ٱنشَقَّتۡ ﴿١﴾ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ﴿٢﴾ وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ﴿٣﴾ وَأَلۡقَتۡ مَا فِیهَا وَتَخَلَّتۡ ﴿٤﴾ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ﴾.
ثانيًا: تُوجِّهُ السورة نداءها لهذا الإنسان وتنبِّهه إلى الغاية من وجوده، وإلى مسؤوليَّته الكاملة عن سلوكه وتصرُّفاته ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحࣰا فَمُلَـٰقِیهِ﴾.
ثالثًا: تُبيِّنُ السورة انقسامَ الناس في ذلك اليوم إلى: فائِزِين بحُسن أعمالهم، أو هالِكِين بسوء أعمالهم؛ فالفائزون يُعطَون كتابهم بأيمانهم علامةً على البشرى والنجاح ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ ﴿٧﴾ فَسَوۡفَ یُحَاسَبُ حِسَابࣰا یَسِیرࣰا ﴿٨﴾ وَیَنقَلِبُ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورࣰا﴾، وأمَّا الخاسرون فيُعطَون كتابهم وراء ظهورهم؛ إهانةً لهم، وتوبيخًا على فعلهم ﴿وَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ وَرَاۤءَ ظَهۡرِهِۦ ﴿١٠﴾ فَسَوۡفَ یَدۡعُواْ ثُبُورࣰا ﴿١١﴾ وَیَصۡلَىٰ سَعِیرًا ﴿١٢﴾ إِنَّهُۥ كَانَ فِیۤ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا ﴿١٣﴾ إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن یَحُورَ ﴿١٤﴾ بَلَىٰۤۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِیرࣰا﴾.
رابعًا: يُقسِم الله ـ في وسط هذه السورة أنَّ الناس سيمرُّون من حالٍ إلى حال، ومن مستوًى إلى آخر، فلا تستقرُّ حياة الإنسان على وتيرةٍ واحدةٍ؛ بل هنالك أحوالٌ، وهنالك أهوالٌ، والعاقل من رأى خطوَ قدمَيه، وعرَفَ طريقَه وعاقبة سيره ﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ ﴿١٦﴾ وَٱلَّیۡلِ وَمَا وَسَقَ ﴿١٧﴾ وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ ﴿١٨﴾ لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقࣲ﴾.
خامسًا: ثم توجَّهت السورة إلى أولئك المُكذِّبين الضالِّين، تلومُهم وتُهدِّدُهم بسوء العذاب الذي ينتظرهم ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ ﴿٢٠﴾ وَإِذَا قُرِئَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا یَسۡجُدُونَ ۩ ﴿٢١﴾ بَلِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یُكَذِّبُونَ ﴿٢٢﴾ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یُوعُونَ ﴿٢٣﴾ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ﴾.
سادسًا: ثم ختمت ببشارة المؤمنين الصالحين ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.


﴿إِذَا ٱلسَّمَاۤءُ ٱنشَقَّتۡ﴾ الانشِقاق معروفٌ، وهو بمعنى: الانفطار الوارد بقوله تعالى: ﴿إِذَا ٱلسَّمَاۤءُ ٱنفَطَرَتۡ﴾ [الانفطار: 1].
﴿وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا﴾ أي: سَمِعَت أمرَه واستجابَت له، بمعنى أنّ انشقاقها إنَّما كان بأمره تعالى، وليس لخللٍ في بنائها.
﴿وَحُقَّتۡ﴾ أي: وحُقَّ عليها أن تسمع لأمر ربِّها وتخضع له، فليس لها غير ذلك بحكم كونها مخلوقة ومربوبة له سبحانه.
﴿وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ﴾ أي: بُسِطَت وعُدِّلَت، وذلك بعد أن تُنسَف جبالها، ويحتمل أنَّ هذا يكون بعد اختلال النظام الكوني، فتتحوّل الأرض من شكلها الكروي إلى شكلٍ مُستَوٍ ممدودٍ، وليست العبرة بتحصيل صورتها آنذاك، بل العبرة بأحوال الناس وما ينتظرهم.
﴿وَأَلۡقَتۡ مَا فِیهَا وَتَخَلَّتۡ﴾ أي: أخرَجَت ما بداخلها ممَّا لا يعلَمُه إلَّا الله، وكأنَّها كانت مُثقَلة به، ولا شكّ أنّ الإنسان قد اكتَشَفَ داخل الأرض ما لا يُحصى من أنواع الطاقة؛ كالغاز والنفط والمعادن الثقيلة، إضافةً للطاقة البركانيَّة التي تحتبس في داخلها، ورُبَّما هناك ما لم يتوصّل إليه البشر، وهذه قرينةٌ على أنّ مدَّها قد يكون معناه تغيّر في كرويَّتها، فتخرج هذه الأشياء التي كانت الأرض مكوّرة عليها، والله أعلم.
﴿وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ﴾ كما السماء؛ فالأرض كذلك تسمع لأمر ربِّها، وتخضَع له، ولا يسَعها غير ذلك.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ﴾ هكذا يُنادي اللهُ عبادَه، لا بأنسابهم ولا بألوانهم، وقد وقع هذا النداء جوابًا للشرط في صدر السورة، بمعنى أنَّه نداءٌ ذو شأنٍ عظيمٍ وخطيرٍ.
﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحࣰا فَمُلَـٰقِیهِ﴾ الكَدْحُ: العمل المصحُوب بالجهد والتعَب، والدنيا بطبيعتها دار كَدْح، فالذي يسعَى للرزق يكدَح، والذي يسعى للسؤدد والمجد يكدَح، والذي يسعى للآخرة يكدَح، وكلّ هذا الكَدْح محفوظٌ على الإنسان وسيُواجِه به ربَّه.
﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ﴾ وهذه علامةٌ على فوزه ونجاته.
﴿فَسَوۡفَ یُحَاسَبُ حِسَابࣰا یَسِیرࣰا﴾ بأن تُعرَض عليه أعماله عرضًا من غير نقاشٍ.
﴿وَیَنقَلِبُ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورࣰا﴾ أي: يرجِع إلى أهله مسرورًا، والعبارة تُوحي وكأنَّه ذهَبَ إلى مكانٍ آخر ليرى أعماله ثُمّ رجَعَ إليهم بهذه النتيجة المُبهِجة، وهذه لو تأمَّلَها المُتأمِّل لتوسَّعَت مداركه، وعلِمَ أنَّ ذلك اليوم واسِع الأفق، طويل المدى، مُتعدِّد الأحوال، مُتنوّع المَشاهِد والصور، والله أعلم.
﴿وَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ وَرَاۤءَ ظَهۡرِهِۦ﴾ تحقيرًا له؛ فالمَلَك الذي يُعطِيه الكتاب لا يُواجِهه، بل يُناوِله الكتاب من خلفه، ولا يبعُد أيضًا أنَّه هو مَن يُعرِض عن المواجهة لشدِّة خوفه وخِزيِه، وعلى كلا الاحتمالَين فهو يُعطَى كتابه بشماله، وهذه علامة شقائه وهلاكه، والعياذ بالله.
﴿فَسَوۡفَ یَدۡعُواْ ثُبُورࣰا﴾ أي: فسوف يَصِيح بالهلاك على نفسه.
﴿إِنَّهُۥ كَانَ فِیۤ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا﴾ إشارةٌ إلى انقلاب حاله، وما كان عليه من الغفلة والانشغال بالمتاع الزائل، وفيه إشارةٌ أخرى تُعرِّض بأولئك الذين وصَفَتْهم السورة السابقة سورة المطففين: ﴿وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِینَ﴾ [المطففين: 31]؛ إذ كانوا يضحَكون من المؤمنين، ويتغامَزُون عليهم.
﴿إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن یَحُورَ﴾ أي: ظنَّ أن لن يرجِع إلى الحياة بعد الموت.
﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ﴾ هذه من الصِّيَغ التي يُراد بها تأكيد القسَم لا نفيه، والشَّفَق معروف، وهو: ما يتبقَّى من ضوء الشمس إثر غروبها، وهو حمرةٌ مُمتدةٌ في الأفق.
﴿وَٱلَّیۡلِ وَمَا وَسَقَ﴾ أي: والليل وما حَمَلَ، والليل بذاته لا يحملُ شيئًا، وإنَّما المقصود: ما خفِيَ على الناس فيه من أشياء وأحوال، وحوادث صغيرة أو كبيرة، ورُبَّما يكون المقصود به النجوم؛ لأنَّها تظهر للناظر في الليل، فكأنّ الليل هو الذي يحملها إلينا، والله أعلم.
﴿وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ﴾ إذا تكامل نوره فأصبح بدرًا مُستديرًا.
﴿لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقࣲ﴾ أي: أحوالًا مُتعدِّدةً وأطوارًا مختلفةً، فمراحلُ خلق الإنسان من بداية خلقه نطفة، حتى هرمه وموته هي أطوارٌ وأحوالٌ، ومسيرةُ البشر في حياتهم واكتشافاتهم وصناعاتهم، وتقدّمهم في علومهم، واختراعاتهم، وما يُحقِّقونه في كلِّ جيلٍ هي أطوارٌ وأحوالٌ أيضًا، وما ينتظر الحياة كلّها من أشراط الساعة وأهوالها، وأحوال الآخرة؛ من بعثٍ وحشرٍ، وحسابٍ وجزاءٍ كذلك أطوارٌ وأحوالٌ، فالتغيُّر سِمَة هذا الخلق، ولن تستقرَّ الحياة في طورٍ واحدٍ، ولا حالةٍ واحدةٍ، ولن يتوقّف الزمنُ عند أحدٍ مهما كان.
﴿فَمَا لَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ ﴿٢٠﴾ وَإِذَا قُرِئَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا یَسۡجُدُونَ ۩﴾ سؤالٌ بصيغة التعجُّب، وقُصِدَ به: لَومُ هذه العقول التي تقرَأ كلَّ هذه الدلائل في هذا الكون المنظور، وفي كتاب الله المسطُور، فلا تنتَفِعُ منها، ولا تهتَدِي بها، مع أنَّ حياتهم التي تتغيَّر من طَورٍ إلى طَورٍ، ومن موتٍ إلى حياةٍ، ومن حياةٍ إلى موتٍ تدعُوهم بالضرورة للتفكير في مصائرهم، وما ينتظرهم في تلك الأطوار والأحوال، ومُطالبتهم بالسجود مستلزمة لمطالبتهم بالإيمان أولًا، وما السجود إلَّا مظهرٌ من مظاهره، وثمرةٌ من ثمراته.
﴿بَلِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یُكَذِّبُونَ﴾ انتقل من السؤال إلى الإخبار ليُقرِّر حقيقةَ أنّ هؤلاء الغافلين المُعرِضين قد كذَّبوا بالقرآن من غير مُستندٍ، ولا حُجّةٍ، ولا شُبهةٍ، وكفَى بهذا إثمًا وظلمًا.
﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یُوعُونَ﴾ هذه جُملةٌ مُعترضةٌ بين جريمتهم في التكذيب، وبين استحقاقهم العذاب الأليم، والغرض منها: التعريض بما يُضمِرُونه في أنفسهم من كبرٍ وحسدٍ يدفعهم إلى ذلك التكذيب الآثم الظالم، و﴿یُوعُونَ﴾ أي: يُضمِرُون ما تنطوي عليه قلوبهم، وأصله: جعل الشيء في وعاء.
﴿فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ﴾ أصل التبشير: الإخبار بما يَسُرُّ، وقد اسُتعير هنا في التهديد على سبيل التهكُّم.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ استثناءٌ منقطعٌ يفيد مقارنة حال أولئك المكذّبين الهالكين بهؤلاء المؤمنين الصالحين، وقد يُحمَل على الاستثناء المُتَّصل بمعنى أنّ أولئك الكافرين يستحقُّون العذاب الأليم، إلَّا مَن آمن منهم فيما بعد وعمل صالحًا - والله أعلم -، و﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي: غيرُ مقطُوعٍ؛ فهو دائِمٌ بدوام الجنّة ونعيمِها.