اعلم أنَّ كثيراً من هذه السورة الكريمة نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى غزو
الروم، وكان الوقت حارًّا والزاد قليلاً والمعيشة عَسِرة ، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتِبَهم الله تعالى عليه ويستنهِضَهم، فقال تعالى:
{يا أيُّها الذين آمنوا}: ألا تعملون بمقتضى الإيمان ودواعي اليقين من المبادرة لأمر الله والمسارعة إلى رضاه وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم؛ فما
{لكم إذا قيلَ لكم انفِروا في سبيل الله اثَّاقَلْتُم إلى الأرض}؛ أي: تكاسلتم وملتم إلى الأرض والدَّعة والسكون فيها.
{أرَضيتم بالحياة الدُّنيا من الآخرة}؛ أي: ما حالُكم إلاَّ حال مَن رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة؛ فكأنه ما آمن بها.
{فما متاعُ الحياة الدنيا}: التي مالت بكم وقدَّمتموها على الآخرة
{إلَّا قليلٌ}: أفليس قد جعل الله لكم عقولاً تزنون بها الأمور؟ وأيُّها أحقُّ بالإيثار؟! أفليست الدنيا من أولها إلى آخرها لا نسبة لها في الآخرة؟! فما مقدار عمر الإنسان القصير جدًّا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها فيجعلَ سعيَهُ وكدَّه وهمَّه وإرادته لا يتعدَّى الحياة الدُّنيا القصيرة المملوءة بالأكدار المشحونة بالأخطار؟! فبأيِّ رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة، الجامعة لكلِّ نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وأنتم فيها خالدون؟! فوالله ما آثر الدُّنيا على الآخرة من وَقَرَ الإيمان في قلبه، ولا مَنْ جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي الألباب.