سورة التوبة تفسير مجالس النور الآية 24

قُلۡ إِن كَانَ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ وَإِخۡوَ ٰ⁠نُكُمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جُكُمۡ وَعَشِیرَتُكُمۡ وَأَمۡوَ ٰ⁠لٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةࣱ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَاۤ أَحَبَّ إِلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادࣲ فِی سَبِیلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ ﴿٢٤﴾

تفسير مجالس النور سورة التوبة

المجلس التاسع والسبعون: بيان إنهاء العقود المُبرمة مع المشركين


من الآية (1- 28)


البراءة من الشرك والمشركين نزلت مبكِّرًا في مكة بقوله تعالى: ﴿قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ ﴿١﴾ لَاۤ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلَاۤ أَنتُمۡ عَـٰبِدُونَ مَاۤ أَعۡبُدُ ﴿٣﴾ وَلَاۤ أَنَا۠ عَابِدࣱ مَّا عَبَدتُّمۡ ﴿٤﴾ وَلَاۤ أَنتُمۡ عَـٰبِدُونَ مَاۤ أَعۡبُدُ ﴿٥﴾ لَكُمۡ دِینُكُمۡ وَلِیَ دِینِ ﴿٦﴾ [الكافرون: 1- 6].
بل إن الدعوة إلى التوحيد من أساسها هي إعلان للبراءة من الشرك، ومقتضى (لا إله إلا الله) الكفر بالأصنام وبكل وثن يُعبد من دون الله، أما سورة التوبة هذه فموضوعها الأساس قطع العلاقات السياسيَّة مع المشركين؛ ذاك لأن البراءة من الشرك التي نزَلَت في مكة لم تكن تستلزم قطع هذه العلاقات، بل العكس؛ إذ كان المسلمون يرفضون مبدأ المقاطعة.
وهذا ظاهرٌ من قصَّة شِعب أبي طالب؛ حيث كان إنهاء المقاطعة نصرًا كبيرًا للمسلمين، ثم بعد الهجرة وتكوين الدولة اتَّفَقَ الرسولُ مع المشركين على الصلح لمدة عشر سنين وهو المعروف بصلح الحُديبية، وهذه دلائل قاطعة على فكِّ الارتباط والتلازم بين المفاصلة العقديَّة الدينيَّة وبين المفاصلة السياسيَّة والمجتمعيَّة.
وعليه فإن سورة التوبة لم تأتِ لتأصيل مسائل العقيدة وما ينبني عليها تجاه الآخرين، بل جاءت لتأصيل فقه العلاقات في مرحلة النضج والقوة التي وصَلَت إليها الدولة المسلمة في أواخر العهد النبوي المبارك.
وقد استهلَّت السورة ببيان الموقف الشرعي من جبهة الشرك، وطريقة التعامل مع القبائل المشركة بعد كلِّ ذلك التاريخ الطويل من الصراع والأخذ والرد، والسلم والحرب، وذلك كما يأتي:
أولًا: إنهاء العلاقات السياسيَّة مع المشركين بشكلٍ كاملٍ وحاسمٍ ﴿بَرَاۤءَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾، ﴿وَأَذَ ٰ⁠نࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلنَّاسِ یَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤءࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ﴾.
ثانيًا: بيان أسباب البراءة والمفاصلة ﴿كَیۡفَ وَإِن یَظۡهَرُواْ عَلَیۡكُمۡ لَا یَرۡقُبُواْ فِیكُمۡ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ یُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ﴾، ﴿لَا یَرۡقُبُونَ فِی مُؤۡمِنٍ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ﴾، ﴿ٱشۡتَرَوۡاْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰا فَصَدُّواْ عَن سَبِیلِهِۦۤۚ﴾ فهم لا يَفُون بعهدٍ ولا عقدٍ، وقد استخدموا قوتهم لإكراه الناس على الكفر والصدِّ عن سبيل الله، وهم من بدأ بالعدوان ﴿نَّكَثُوۤاْ أَیۡمَـٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ﴾.
ثالثًا: مُقتضى هذه البراءة تحريم موالاتهم بأي صور الولاء، مهما كانت النوايا والأسباب ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَـتَّـخِذُوۤاْ ءَابَاۤءَكُمۡ وَإِخۡوَ ٰ⁠نَكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِیمَـٰنِۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُو﴾.
رابعًا: إخراج المشركين من المسجد الحرام ومنعهم منه ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسࣱ فَلَا یَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ﴾.
وقد علَّل هذا بأن المشركين لا يُؤتَمَنون على رسالة المسجد؛ حيث أدخَلُوا فيه الأصنام، وإنما المسجد هو بيت الله وليس بيتًا للأصنام ﴿مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِینَ أَن یَعۡمُرُواْ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ شَـٰهِدِینَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ﴾.
وقد أبطَلَ حُجَّتَهم التي كانوا يتوسَّلُون بها إلى أحقِّيتهم بالبيت، وهي الخدمات التي يُقدِّمونها للبيت وللحَجِيج الوافدين إليه ﴿۞ أَجَعَلۡتُمۡ سِقَایَةَ ٱلۡحَاۤجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَجَـٰهَدَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ﴾ وبهذا حسم الإسلام سيطرتَه على المركز الديني في الجزيرة العربية، ونزع من قريش أهم أسباب هَيبَتها وهَيمَنَتها على الجزيرة.
خامسًا: إمهال المشركين أربعة أشهر من يوم إعلان البراءة ﴿فَسِیحُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرࣲ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِی ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ وقد تضمَّن هذا الإمهال ترغيبهم في التوبة ﴿فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ﴾، ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَ ٰ⁠نُكُمۡ فِی ٱلدِّینِۗ﴾ وهذا يعني: حرص الإسلام على إدماج هؤلاء في المجتمع المسلم، ومحو آثار الصراع والفتنة.
سادسًا: إن أصرُّوا على شِركهم والخروج بالقوة المسلحة عن سُلطان الدولة المسلمة في جزيرة العرب، فإنه لا حَلَّ معهم إلا القوَّة ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدࣲۚ﴾، ﴿وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَیۡمَـٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِی دِینِكُمۡ فَقَـٰتِلُوۤاْ أَىِٕمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَاۤ أَیۡمَـٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ یَنتَهُونَ﴾، ﴿قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ﴾.
سابعًا: استثنى القرآن من كلِّ هذه الأحكام حالَتَين من حالات المشركين:
الحالة الأولى: المشركون الذين لم ينقضوا العهود، ولم يُشارِكُوا بعُدوان على المسلمين، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم، والاستقامة معهم ما استقاموا ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ثُمَّ لَمۡ یَنقُصُوكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَمۡ یُظَـٰهِرُواْ عَلَیۡكُمۡ أَحَدࣰا فَأَتِمُّوۤاْ إِلَیۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ﴾، ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَـٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِیمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ﴾.
الحالة الثانية: أفراد المشركين الذين ليس لهم شوكة، ويطلبون الحماية من المسلمين، فهؤلاء تجب حمايتهم ﴿وَإِنۡ أَحَدࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمࣱ لَّا یَعۡلَمُونَ﴾.
ثامنًا: تنبيه المسلمين إلى خطورة الغرور بالقوة ونشوة النصر، وهذه آفة تُصيب كثيرًا من حركات الإصلاح والتغيير؛ حيث تنتَكِس القيم، وتنتهك المبادئ التي انطلقت منها الحركة. وقد سجَّل القرآن هنا ما أصاب المسلمين بعد فتح مكة من هذه العوارض البشرية؛ ليكون الدرس البليغ للأمة على مدار أجيالها وأحوالها ﴿وَیَوۡمَ حُنَیۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَضَاقَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّیۡتُم مُّدۡبِرِینَ﴾.


ترك البسملة في هذه السورة جَارٍ على عادة العرب في صياغة خطابات الحرب، والإعلام بانتهاء الهدنة ومعاهدات الصلح، وهذا أقربُ الوجوه، والله أعلم.
أما القول بأنها تكمِلة لسورة الأنفال، فيُثيرُ أكثر من إشكال، من بينها: فتح المجال للقول بإمكانية الاجتهاد البشري في ترتيب السور، ثم إن خواتيم سورة الأنفال مختلفة في الصياغة والأسلوب عن أوائل التوبة، وسيكون الانقطاعُ واضحًا.
إضافةً إلى هذا، فإن سورة الأنفال تُعالِجُ موضوعًا مختلفًا عن سورة التوبة، والفارقُ الزمنيُّ بين السورتَين كبير؛ فالأنفال تتحدَّثُ عن معركة بدر، والتوبة تتحدَّث عن مرحلة ما بعد الحديبية ونهايات الصراع الطويل مع الوثنيَّة.
﴿بَرَاۤءَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ﴾ هي من الله تشريعًا، ومن رسوله تبليغًا وتنفيذًا.
﴿فَسِیحُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرࣲ﴾ سِيروا فيها آمِنين، وفيه إشارة للتفكُّر والنظر في العواقب، والأربعة أشهر هذه ليست هي الأشهر الحرم، بل هي مُهلة متصلة منَحَها الله للمشركين تبدأ من يوم إعلان البراءة، والمعلوم أن الأشهر الحرم ليست متصلة.
﴿غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِ﴾ فالله قادرٌ عليكم أينما كنتم.
﴿وَأَذَ ٰ⁠نࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ﴾ الأذان: الإعلام والإعلان.
﴿ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ﴾ وصفٌ ملازمٌ للحجِّ لا على سبيل الاحتراز، فكلُّ حجٍّ هو أكبر؛ إذ ليس هناك حجٌّ أصغر، وإن أُطلِق على العمرة تجوزًا، ويوم الحجِّ يحتمل وقفة الحَجِيج بعرفة، أو يوم النحر، ويحتمل أنه أيام الحجِّ كلها، كما تقول: يوم القادسية، وهو ليس يومًا واحدًا، والله أعلم.
﴿أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤءࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ﴾ أي: ورسوله بريءٌ منهم أيضًا.
﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ﴾ إذا انقضت هذه المهلة، وهي المحدَّدة بأربعة أشهر متصلة من يوم الإعلام بالبراءة، وهي ليست الأشهر الحرم المعروفة. وسمِّيت حُرمًا؛ لأن الله حرَّمَ فيها دماء المشركين، ومنَحَهم فيها الأمان والسياحة في الأرض.
﴿فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ﴾ ليست عامَّة في كلِّ المشركين؛ بدليل الاستثناءات الواردة بعدُ كما سيأتي.
﴿وَخُذُوهُمۡ﴾ بالأسر.
﴿وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدࣲۚ﴾ راقبوا تحركاتهم في كلِّ مكانٍ وعلى كلِّ طريقٍ، ولا تسمحوا لهم بتجميع قواهم، أو التنقُّل كما يشاءون.
﴿وَإِنۡ أَحَدࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ﴾ استثناء من المقاتلة، وفيه دليلٌ أن المقاتَلة إنما تكون للمشركين أصحاب الشوكة والقوة والمنعة، أما الأفراد فمقامهم مقام الرحمة والدعوة وحُسن الخلق، والأصل فيهم قوله تعالى: ﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ﴾ [البقرة: 256]، وأما أصحاب الشوكة فأولئك خارجون عن النظام، ومُتمرِّدون فيجب إخضاعهم بالقوَّة.
﴿فَمَا ٱسۡتَقَـٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِیمُواْ لَهُمۡۚ﴾ أي: إذا استمروا على الوفاء بعهدهم فاستمروا معهم، وهو استثناء كذلك من حكم المقاتلة.
﴿یَظۡهَرُواْ عَلَیۡكُمۡ﴾ يظفروا بكم ويتغلَّبُوا عليكم.
﴿لَا یَرۡقُبُواْ فِیكُمۡ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ﴾ أي: لا يُراعُون فيكم قرابةً، ولا رحِمًا، ولا صِلةً سابقةً، ولا عهدًا مُبرَمًا.
﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِیلِهِۦۤۚ﴾ منعوا الناس من الدخول في الإسلام.
﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَ ٰ⁠نُكُمۡ فِی ٱلدِّینِۗ﴾ رغم كلِّ ما فعلوه بكم، وهذا دليلٌ على أن باب الإيمان مفتوحٌ للجميع، ويتساوَى الولاء فيه بين كلِّ المؤمنين مهما كان أصلهم وفصلهم وتاريخهم، فالقتال في الإسلام له غاية إنسانيَّة نبيلة، فهو ليس لتسلُّط شعبٍ على شعب، أو قبيلةٍ على قبيلة، وليس هو قتالًا ثأريًّا أو انتقاميًّا.
﴿فَقَـٰتِلُوۤاْ أَىِٕمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ﴾ لأنهم يَحُولون بين الناس وبين هداية الوحي، فلو أُزِيحوا عن الطريق لاهتدى الناس بلا مقاتلة ولا إكراه.
﴿لَاۤ أَیۡمَـٰنَ لَهُمۡ﴾ جمع يمين، وهو القسَم، والمقصود به هنا: العهد، بمعنى: أن هؤلاء لا يحفظون عهودهم؛ ولذلك لا تقبل منهم.
﴿وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمۡ﴾ عِلْمُ الله شاملٌ لا يحدُّه زمان ولا مكان، والمقصود تحقيقُ ما يعلَمُه الله من أفعالكم؛ لأن هذا هو مناطُ الجزاء الذي تستحقُّونه.
﴿مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِینَ أَن یَعۡمُرُواْ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ﴾ لأن عمارة المسجد بالحجارة لا قيمة لها إن كان فيها طمسٌ لرسالة المسجد، وإظهارٌ للشرك وعبادة الأصنام.
﴿۞ أَجَعَلۡتُمۡ سِقَایَةَ ٱلۡحَاۤجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَجَـٰهَدَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ﴾ تأكيدٌ أن عمارة المسجد إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح وحسن التعبُّد، فإن انتفت هذه فلا قيمة للمباهاة بالصرف على المساجد وتزيينها وزخرفتها، وإطعام الحَجيج وسقايتهم، وهذا مُتَّسقٌ مع أصلٍ كبيرٍ من أصول الإسلام؛ أن العمل الصالح ثمرةٌ للإيمان، فإن قطع عنه لا يسمَّى صالحًا، بل هو باطلٌ وذاهبٌ ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65].
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَـتَّـخِذُوۤاْ ءَابَاۤءَكُمۡ وَإِخۡوَ ٰ⁠نَكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِیمَـٰنِۚ﴾ الولاء هنا ولاء النصرة والتأييد حينما تتمايز الصفوف، أما صلة الرحم وحسن الخلق واللطف في المعاملة فهي من شمائل الإسلام حتى مع الكافرين بل هي طريق الدعوة والإصلاح ﴿۞ وَلَا تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، ﴿۞ وَلَا تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ [لقمان: 15].
﴿وَأَمۡوَ ٰ⁠لٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا﴾ اكتسبتموها وحصَّلتموها، وعبَّر بالاقتراف إشارةً للكسب الحرام، وهو الذي يصدُّ صاحبه عن سبيل الحقِّ والخير.
﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ﴾ تهديد لكلِّ من منعه التعصُّب للقرابة، أو الطمع في متاع الدنيا عن اللحاق بركب المؤمنين وموالاتهم، والبذل معهم، والجهاد في صفوفهم، وتحت رايتهم.
﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِی مَوَاطِنَ كَثِیرَةࣲ﴾ تذكيرٌ بمَنِّ الله وفضله، وتشجيع لهم على الثبات في الميدان بعد أن طلب منهم مُقاتَلَة الناكِثِين للعهد من المشركين.
﴿وَیَوۡمَ حُنَیۡنٍ﴾ أي: ونصركم يوم حُنَينٍ أيضًا، وحُنَين واد بين مكة والطائف حصلت فيه معركة كبيرة، وجاء تذكيرُهم به لما فيه من عبرة مناسبة؛ حيث إن المسلمين كانوا فيه كثرة كاثرة، على خلاف المعارك الأخرى؛ كبدر، وأُحُد، والأحزاب.
﴿إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَیۡـࣰٔا﴾ فغرور القوَّة أو الكثرة قد يكون سببًا لإهمال الأسباب، والتقليل من الحيطة والحذر، مع ضعفِ الشعور بالحاجة إلى الدعاء والسند الإلهي، وقد حصَلَت النكسةُ بالفعل بداية المعركة بسبب هذا، وهو قطعًا ليس عامًّا عند كلِّ المؤمنين، لكنه شعورٌ غالبٌ على ما يبدو من ظاهر الآية، والله أعلم.
﴿وَضَاقَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ﴾ تعبيرٌ عن انسداد الأفق، وفقدان الحيلة والمخرج بسبب شدَّة الصدمة، وهول المفاجأة.
﴿ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ إذ ثبَتَ مع قلَّةٍ من المؤمنين، ثم ثبَّت الله به الآخرين، وأرجَعَ الفارِّين حتى عادَت الصفوف كما كانت، فتحقَّق النصر بعد النكسة.
﴿إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسࣱ﴾ نجاسة المعتقد لا نجاسة الأعيان؛ حيث يصرُّون على عبادة الأصنام وتقديم القرابِين لها، وهذا مُنافٍ لطهارة المسجد الحرام ورسالته الإيمانيَّة التوحيديَّة.
﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَیۡلَةࣰ﴾ فقرًا بسبب انقطاع الأسواق، وقلة التجارة؛ وذلك بسبب منع القبائل المشركة من دخول مكة.