﴿حَتَّىٰ یُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ﴾ الجِزية من الجزاء، وهي قَدرٌ من المال تأخذه الدولة المسلمة من مُواطنيها الكتابيِّين جزاء حمايتها لهم، وصيانتها لحقوقهم، بشرط خضوعهم لسلطانها، والتزامهم بقوانينها.
﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ﴾ المشهور أن هذا قول فرقة منهم، إلا أن عامة اليهود لم تُنكِر عليهم، فكانوا شركاءَهم بحكم الإقرار، والله أعلم.
﴿ذَ ٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡۖ﴾ أي: ادِّعاء بلا دليل، وفيه إشارة إلى أنَّهم يقولونه غلوًّا وعنادًا لا عن قناعةٍ راسخةٍ؛ لأنه قولٌ تُنكِرُه العقول، وتأباه الفطرة.
﴿یُضَـٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ﴾ يُشابِهون قولَ المشركين في شِركهم.
﴿ٱتَّخَذُوۤاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ بيان لسبب الانحراف، والأحبار علماء اليهود، والرهبان أصحاب الصوامع المنقطعون للتعبُّد من النصارى، ومعنى اتخاذهم أربابًا: أنهم يُطيعونهم في تحريمهم الحلال وتحليلهم الحرام بلا دليل.
وقد ورد هذا المعنى في حديث عديِّ بن حاتم المعروف، وفيه قوله
ﷺ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ».
﴿یُرِیدُونَ أَن یُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ﴾ يريدون أن يطمسوا نور الإسلام.
﴿لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ﴾ ليُعلِيَ الإسلام على كلِّ دين؛ لأنه الدين الحقُّ المحفوظ بحفظ الله، والمنصور بقوة الله، وليس هناك اليوم على وجهِ الأرض كتابٌ سماويٌّ محفوظٌ ومُنزَّهٌ عن التحريف بزيادةٍ أو نقصانٍ غير القرآن الكريم، فلا توجد فيه نسخة تخالف نسخة، ولا رواية تخالف رواية، بخلاف كلِّ الكتب الدينيَّة السماويَّة منها وغير السماويَّة.
وأما الظهور بمعنى التمكين والقوة والسلطان فهذا ليس شرطًا في قيام الحجة، مع أنه مُتحقِّقٌ في أغلب التاريخ، فلم ينتَكِس المسلمون انتكاسةً عامةً إلا في هذه المرحلة الاستِثنائيَّة من كلِّ تاريخهم.
﴿إِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَیَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱلـلَّـهِۗ﴾ ربط بين الصدِّ عن سبيل الله وأكل المال الحرام، وفيه إشارة إلى أن الذي يدفع هؤلاء الأحبار والرهبان للتمسُّك بالباطل ومحاربة الحقِّ إنما هو الخوف من فَوَات مكاسبهم وامتيازاتهم الماديَّة والمعنويَّة، كما هو حالُ كثيرٍ من رجال الدين ممن يُسمَّون بالمراجع، والذين يحيطون أنفسهم بهالةٍ من القداسة، فتُجبَى لهم الأموال من كلِّ فجٍ وصَوبٍ، ودون حسيبٍ ولا رقيب.
﴿وَٱلَّذِینَ یَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ﴾ الكلام متصل بحال الأحبار والرهبان، وفيه بيان لجَشَعهم وطمعهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الذمُّ والوعيد يدخل فيهما كلُّ من شابَهَهم في كَنز للمال بلا وجه حقٍّ، ثم منعه عن مُستحقِّيه من الفقراء والمساكين ونحوهم.
﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرࣰا فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ یَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾ وهي عدَّةٌ قدريَّةٌ حاكِمةٌ لحساب الزمن، مُتضمِّنة الأسابيع والأيام والساعات، سواء أكانت بحساب الشمس أم بحساب
القمر، فكلُّ ذلك من تقديرِ الله في هذا الفلك العظيم، والناس خاضِعُون لهذا التقسيم ومُتوافِقُون عليه، وللحساب
القمري خصوصيَّة متعلقة بالشعائر والمناسك، وبعض الأحكام التكليفيَّة لدى المسلمين، كما سيأتي.
﴿مِنۡهَاۤ أَرۡبَعَةٌ حُرُمࣱۚ﴾ وهذا تشريعٌ بصيغة الخبر، بمعنى: أن من الشهور الإثنَي عشر أربعة يحرم فيها القتال، وهذا التشريعُ جاء مُوافقًا لعُرفٍ عربيٍّ كان سائِدًا قبل الإسلام، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الفرد، وربما كان هذا العُرف من بقايا الإبراهيميَّة، والله أعلم.
﴿إِنَّمَا ٱلنَّسِیۤءُ زِیَادَةࣱ فِی ٱلۡكُفۡـرِۖ﴾ والنسيء هنا تأخير الامتناع عن القتال إلى الأشهر الأخرى؛ حيث كان المشركون ينتَهِكُون حرمة هذه الأشهر ويستمرُّون بالقتال دون توقُّف، ثم يُعوِّضون الأيام التي تَقاتَلوا فيها بأيام أخرى من غير الأشهر الحرم، وهذا تلاعُبٌ في الدين وانتهاك للحرمات، ومن ثَمَّ فهو زيادة متصلة بما عندهم من الكفر.
وهنا إشارة أن التحليل و
التحريم من غير دليل مُؤْذِنٌ بالكفر، والله أعلم.
﴿یُحِلُّونَهُۥ عَامࣰا وَیُحَرِّمُونَهُۥ عَامࣰا﴾ تأكيد لتلاعبهم بالدين، وكأنهم شابَهُوا الأحبارَ والرهبان في الجرأة على تحليل الحرام وتحريم الحلال.
﴿لِّیُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ﴾ أي: ليُوافقوا عددَ الأيام التي انتَهَكوها من الأشهر الحرم بأيَّامٍ أخرى.
﴿ٱنفِرُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ اخرجوا بجمعكم للجهاد.
﴿ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ تباطَأتم كراهةً في القتال، ورغبةً في الحياة.
﴿وَیَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ﴾ يُهيِّئ للجهاد ولحمل أمانة الدعوة أقوامًا آخرين.
﴿ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ﴾ هما رسولُ الله
ﷺ وصاحبه الذي اختاره للهجرة معه من بين كلِّ أصحابه وهو أبو بكرٍ الصدِّيق .
﴿إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ﴾ مُختبِئان في غارٍ بجبل ثور من جبال مكة.
﴿إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾ قال: لا تحزَن، ولم يقل: لا تخَف؛ لأن أبا بكرٍ عنه كان يخشَى على رسول الله
ﷺ والدعوة التي يحملها أكثر من خشيَتِه على نفسه.
وقال:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾، ولم يقل: إن الله معي؛ لأن أبا بكر داخِل في هذه المعيَّة، وهي معيَّة التأييد والحفظ والنصرة، فهو مع صاحبه في كلِّ هذا ولم يُشارِكه أحدٌ من الخلق، وهذه ميزة لأبي بكر لم تكن لغيره أبدًا.
﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِیَ ٱلۡعُلۡیَاۗ﴾ فالجَعل مُسلَّطٌ على كلمة الذين كفروا، أما كلمة الله فهي العُليا أزلًا وأبدًا لا تحتاج إلى جَعل، ولا يَعتَريها تغيُّر.