التخلُّف عن غزوة تبوك وهي الغزوة الأخيرة في سيرة النبي الكريم
ﷺ حظِيَ بمعالجةٍ قرآنيَّة دقيقة وشاملة؛ وربما كان ذلك لأنه الدرس الأخير الذي يمكن للوحي أن يواكِبَه، بخلاف التخلُّف عن الغزوات السابقة، كما أن المتخلِّفين عن الغزو مع رسول الله
ﷺ سيكونون أجرأ على التخلُّف مع خلفائه من بعده، ومن ثَمَّ كان هذا الدرس وقائيًّا لحالات التخلُّف المتوقعة بعد رسول الله
ﷺ أكثر مما هو معالجة للمشكلة الآنِيَّة.
ويمكن تلخيص ما جاء به القرآن بهذا الصدد في النقاط الآتية:
أولًا: تحديد الأصناف الذين يُقبل عذرهم في التخلُّف
﴿لَّیۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاۤءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یَجِدُونَ مَا یُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ﴾،
﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِینَ إِذَا مَاۤ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَاۤ أَجِدُ مَاۤ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَیۡهِ تَوَلَّواْ وَّأَعۡیُنُهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا یَجِدُواْ مَا یُنفِقُونَ﴾.
ثانيًا: في مقابل هؤلاء يُحدد القرآن الأصناف الذين لا يقبل لهم عذر وإن اعتذروا
﴿وَإِذَاۤ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَـٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسۡتَـٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ ﴿٨٦﴾ رَضُواْ بِأَن یَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾،
﴿۞ إِنَّمَا ٱلسَّبِیلُ عَلَى ٱلَّذِینَ یَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ وَهُمۡ أَغۡنِیَاۤءُۚ رَضُواْ بِأَن یَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ وهؤلاء هم أصحاب القوة والمال.
ثالثًا: إن السبب الأساس لهذا التخلُّف إنما هو النفاق والكفر الخفي
﴿وَقَعَدَ ٱلَّذِینَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَیُصِیبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾،
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰۤ أَحَدࣲ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدࣰا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦۤۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَـٰسِقُونَ ﴿٨٤﴾ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَ ٰلُهُمۡ وَأَوۡلَـٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُعَذِّبَهُم بِهَا فِی ٱلدُّنۡیَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَـٰفِرُونَ﴾.
رابعًا: إن الجهل سببٌ آخر، وهو أصلٌ في الضلال بكل أشكالِهِ ومُستوياتِهِ
﴿وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِی ٱلۡحَرِّ ۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرࣰّاۚ لَّوۡ كَانُواْ یَفۡقَهُونَ﴾،
﴿رَضُواْ بِأَن یَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا یَفۡقَهُونَ﴾،
﴿رَضُواْ بِأَن یَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ﴾،
﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرࣰا وَنِفَاقࣰا وَأَجۡدَرُ أَلَّا یَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ﴾.
خامسًا: حب الدنيا والدعة والراحة فيها
﴿فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن یُجَـٰهِدُواْ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِی ٱلۡحَرِّ ۗ﴾،
﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَ ٰلُهُمۡ وَأَوۡلَـٰدُهُمۡۚ﴾،
﴿فَلۡیَضۡحَكُواْ قَلِیلࣰا وَلۡیَبۡكُواْ كَثِیرࣰا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ﴾.
سادسًا: إنهم مع كلِّ هذا يحاولون تحسين صورتهم بين المسلمين ولو بالأيمان الكاذبة
﴿یَعۡتَذِرُونَ إِلَیۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَیۡهِمۡۚ﴾،
﴿سَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ إِذَا ٱنقَلَبۡتُمۡ إِلَیۡهِمۡ لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ﴾،
﴿یَحۡلِفُونَ لَكُمۡ لِتَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡۖ﴾.
سابعًا: التحذير من قبول عذرهم وتوفير الغطاء الأخلاقي لهم
﴿قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ﴾،
﴿فَإِن تَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یَرۡضَىٰ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾.
ثامنًا: التوجيه باتخاذ إجراءات عمليَّة لمُحاصَرة هذه الحالة الشاذَّة وعَزلها عن جسَد الأمة
﴿فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَاۤىِٕفَةࣲ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِیَ أَبَدࣰا وَلَن تُقَـٰتِلُواْ مَعِیَ عَدُوًّاۖ﴾ وهذا معناه: حِرمانُهم من المشاركة في المؤسسة العسكريَّة، ثم قال:
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰۤ أَحَدࣲ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدࣰا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦۤۖ﴾ وهذا إعلانٌ صريحٌ بكفرهم وخروجهم من ملَّة المسلمين.
تاسعًا: وقد اقتَضَى المقام تفصيل الأمر بالنسبة للأعراب، والذين كانوا أبعَد عن الوعي الصحيح بالإسلام ومبادئه وأحكامه، فكانوا بذلك بيئة للتصرُّفات المختلفة والمتضادة فمنهم من يتأثَّر بشُبهات المنافقين، ومنهم من يقترب من صفات الصالحين.
وقد فصَّل القرآن هذه الحالات تجنُّبًا للتعميم الظالم وأخذ الكلِّ بجريرة البعض
﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَیَتَّخِذُ مَا یُنفِقُ قُرُبَـٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَ ٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَاۤ إِنَّهَا قُرۡبَةࣱ لَّهُمۡۚ سَیُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِی رَحۡمَتِهِۦۤۚ﴾، قال هذا بعد قوله فيهم:
﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرࣰا وَنِفَاقࣰا﴾، وقوله:
﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن یَتَّخِذُ مَا یُنفِقُ مَغۡرَمࣰا وَیَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَاۤىِٕرَۚ عَلَیۡهِمۡ دَاۤىِٕرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ﴾.
وفي قضية التخلُّف كان موقف المتخلِّفِين منهم مُخالفًا لموقف المنافقين:
﴿وَجَاۤءَ ٱلۡمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ لِیُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ ٱلَّذِینَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ﴾ وهي إشارةٌ إلى تمييزهم عن المنافقين، والله أعلم.