سورة الشمس تفسير مجالس النور الآية 7

وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا ﴿٧﴾

تفسير مجالس النور سورة الشمس

المجلس الخامس والثمانون بعد المائتين: قد أفلح من زكَّاها


سورة الشمس


محور هذه السورة: تزكية النفس، وتحمُّل المكلَّف مسؤوليَّته في ذلك؛ إذ هي عنوان فلاحه، وطريق سعادته، وقد أكَّدت السورة هذا المعنى بسلسلةٍ من القَسَم المُتضمِّن لآيات الله في هذا الوجود، ثم قدَّمَت نموذجًا مِن قصص السابقين الذين خسِروا أنفسهم، واتبعوا شهواتهم، وكما يأتي:
أولًا: أقَسَم الله ـ في مستهلِّ هذه السورة بثنائيَّاتٍ متقابلة: الشمس والقمر، والنهار والليل، والسماء والأرض، ثم أقسَم بنفس الإنسان التي ألهَمَها الفجورَ والتقوَى؛ ليُمهِّد بذلك لجوابِ القسم؛ وهو محور هذه السورة وموضوعها الأساس: ﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا ﴿١﴾ وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا ﴿٢﴾ وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا ﴿٣﴾ وَٱلَّیۡلِ إِذَا یَغۡشَىٰهَا ﴿٤﴾ وَٱلسَّمَاۤءِ وَمَا بَنَىٰهَا ﴿٥﴾ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا ﴿٦﴾ وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا ﴿٧﴾ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾.
ثانيًا: ثم جاء جواب القسم بثنائيَّةٍ أيضًا: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ﭴوَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ ليُحمِّل الإنسان مسؤوليَّته الكاملة في تزكية نفسه، وليضعه على مفترق الطريق؛ فإمَّا ناجٍ بعمله وفائز بسعادة الدارين، وإمَّا هالِك وخاسِر.
ثالثًا: ثم تعرِض السورة قصة ثمود التي كفَرَت بربِّها وكذّبَت نبيّها، واتبعت أشْقاها وأجرَأَها على الله، فهَلَكَت في الدنيا، وهلاكها في الآخرة أشدّ ﴿كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِطَغۡوَىٰهَاۤ ﴿١١﴾ إِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا ﴿١٢﴾ فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡیَـٰهَا ﴿١٣﴾ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَیۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا ﴿١٤﴾ وَلَا یَخَافُ عُقۡبَـٰهَا﴾.


﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا﴾ أقَسَمَ الله بالشمس؛ تنبيهًا إلى ما فيها من آياتٍ، ثم أتبَعَها بالضحى؛ لأنَّه وقت العمل وشدّة الحركة، بإشارةٍ إلى أهميَّة الشمس في حياة الإنسان.
﴿وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا﴾ أي: إذا تلا الشمس بعد غروبها، والقَسَمُ بالقمرِ تنبيهٌ إلى آياتٍ أخرى، فإذا كانت الشمس عنوانًا للعملِ والكدِّ، فإنَّ القمر عنوانٌ للأُنس والصفاء والراحة.
﴿وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا﴾ أي: والنهار إذا جلَّى الشمس؛ أي: أظهَرَها، وهذا على سبيل المجاز الظرفيِّ؛ لأنَّ النهار وقتُ تجلِيةِ الشمس وظهورها، ولا يبعُد أن يكون الضمير في ﴿جَلَّىٰهَا﴾ يعُود إلى المعهود في الذِّهن، وهو هنا الأرض، والله أعلم.
﴿وَٱلَّیۡلِ إِذَا یَغۡشَىٰهَا﴾ أي: والليل إذا يحجِب الشمس، ويجوز أيضًا عَودُ الضمير في ﴿یَغۡشَىٰهَا﴾ إلى الأرض، بمعنى أنّ الليل يُغطِّي الأرض، وذِكرُ النهار والليل بعد الشمس يُشير إلى دورها في تكوينهما، وهذه من آيات الله التي تُنظِّم حياة الناس، بل تُنظِّم الحياة كلّها.
﴿وَٱلسَّمَاۤءِ وَمَا بَنَىٰهَا﴾ أي: والسماء وبنيانها العظيم والمتماسك، و﴿وَمَا﴾ هنا مصدرية، ويَبعُدُ أن تكون بمعنى (مَن) كما يرى بعض المفسرين؛ لأنَّ القسَم بالله تعالى لا يُناسب أن يكون بعد القسَم بمخلوقاته، وهكذا القول في: ﴿وَمَا طَحَىٰهَا﴾، وفي: ﴿وَمَا سَوَّىٰهَا﴾.
ومُناسبة ذِكر السماء هنا: أنَّها الأفق الذي تتحرّك فيه الشمس والقمر، والتنبيهُ إليها تنبيهٌ أيضًا إلى نجومها وكواكبها التي لا تُحصَى.
﴿وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا﴾ أي: والأرض وطَحْوها، بمعنى: بسطها وتهيئتها لعيش الناس وحركتهم.
﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا﴾ أي: ونفس الإنسان وخلقها بهذا الشكل السويِّ، والقَسَمُ بالنفس توطِئة لجواب القسَم، والذي هو محور هذه السورة.
﴿فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾ الإلهام هنا يعني: ما أودَعَه الله في هذه النفس؛ من استعدادٍ للفجور، أو للتقوى، وهذا مناط الاختبار الذي هو المقصد الأساس لخلق الإنسان ﴿لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۗ﴾.
ومِن هذا الإلهام أيضًا: ما ميَّز الله به الإنسان من قدرةٍ عقليَّةٍ يُميِّزُ بها بين الخير والشر، والصحيح والخطأ، ثم أتمَّ الله نعمتَه على هذا الإنسان برسالته السماويَّة الهادية التي تُرشِدُه إلى طريق الحقِّ، وتُحذِّرُه من طريق الباطل، فكلّ هذه المعاني داخلةٌ في مدلُول هذه الآية، وبينها تعاضُد وتكامُل، فلا حاجةَ لسُلوك مسلَك الترجيح فيما بينها، والله أعلم.
﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ﴿٩﴾ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ هذا هو جواب القسَم، وهذا هو محورُ السورة، بل محور الرسالة كلّها، وتزكيةُ النفس يعني: تطهيرها وتهذيبها، وتربيتها التربية السليمة التي تغلّب عناصر الخير فيها على عناصر الشر، وإنَّما تتحصَّل هذه التزكية بالتقوى؛ أي: بتحمُّل الإنسان مسؤوليَّته، ومراقبته لنفسه، وخشيته الدائمة من ربِّه، والاستعداد ليوم الحساب، فهذا هو الذي يستحقُّ الفلاح في دنياه وأخراه.
وأمَّا ذلك الذي أهمل نفسه وأتبعها هواها حتى استغلَظَت فيها عناصر الشرِّ، واضمحلَّت فيها نبَتةُ الخير، فقد دسَّى نفسه؛ أي: حالَ بينها وبين الخير، كأنَّه دسَّ شيئًا بينها وبين الخير فلا تصِل إليه، فهذا ليس له إلَّا الخيبة والخسران الدائم في دنياه وأخراه.
﴿كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِطَغۡوَىٰهَاۤ﴾ أي: بسبب طغيانها، بمعنى أنَّهم لم يكونوا قد كذَّبوا نبيّهم لشبهةٍ قابلةٍ للنظر، بل كذَّبوه طغيانًا واستكبارًا على الحقِّ وأهله، وقد تقدَّمَت قصة هؤلاء القوم وتكرَّرت كثيرًا في القرآن الكريم.
﴿إِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا﴾ أي: بعثوا أشقَاهم فأطاعهم، بل هو من أبدَى لهم عن سفاهَته وجُرأته على ما بعثوه له، كما سيأتي.
﴿فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ﴾ هو نبيُّهم صالح عليه السلام.
﴿نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡیَـٰهَا﴾ أي: يُحذِّرُهم من الاعتداء على الناقة التي أرسلَها الله لهم آيةً، ويُذكِّرهم بحقِّها من الشرب؛ حيث كان لها وقتٌ مخصوصٌ لسقياها.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي: كذّبوا تحذيرَه لهم وما توعّدهم به من العذاب، وهذا تكذيبٌ ثانٍ؛ لأنَّ تكذيبهم الأوَّل كان برسالته ونبوته.
﴿فَعَقَرُوهَا﴾ أي: ضربوها بالسيف ثم نحَرُوها، والذي عقَرَها هو أشقاهم الذي بعَثُوه، ونسب الفعل إليهم جميعًا؛ لأنَّهم كانوا راضِين به، ومُشجِّعين عليه.
﴿فَدَمۡدَمَ عَلَیۡهِمۡ رَبُّهُم﴾ أي: أرسَلَ عليهم الصيحة التي أهلَكَتْهم، والدمدَمَةُ: صوت الدمار، وهو الصوت المُعبِّر عن الغضب أيضًا كالزَّمجَرة، والله أعلم.
﴿بِذَنۢبِهِمۡ﴾ أي: بسبب ذنبهم؛ فالله ـ لا يظلم أحدًا.
﴿فَسَوَّىٰهَا﴾ أي: عمَّ أرضهم بعذابه، وجعلها مستويةً خاليةً كأن لم يكن فيها أحدٌ.
﴿وَلَا یَخَافُ عُقۡبَـٰهَا﴾ بمعنى أنَّ الله لا يخشى عاقبة فعله بهم، وكيف يخشى وهو خالق الخلق، ومالك الملك ؟
وإنَّما المقصود: إظهار قدرة الله عليهم ومحو أثرهم؛ فلا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يسعى بثأرهم، ويحتمل أن يكون ذلك عائدًا على الذي عقَرَها؛ بمعنى أنَّه ما كان يحسِب حساب هذه العاقبة البائسة؛ لأنَّه كان كافرًا بالله مكذِّبًا لنبيه، جاهلًا بالمآلات والعواقب، والله أعلم.