﴿وَٱلضُّحَىٰ ﴿١﴾ وَٱلَّیۡلِ إِذَا سَجَىٰ﴾ أي: إذا أظلَمَ وادلهمَّ، وهاتان صورتان تُبرِز إحداهما الأخرى: إشراقة الضحى، وعتمة الليل.
﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ أي: ما ودَّعك توديعَ مُفارِق، وما جفاك جفاء كارِه.
﴿وَلَسَوۡفَ یُعۡطِیكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰۤ﴾ أي: في الآخرة؛ ولذلك كانت الآخرة خيرًا له
ﷺ من الدنيا.
﴿أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ﴾ هذا الاستِفهام التقريري يُقصَدُ به بيان عناية الله تعالى به
ﷺ ، فهو الذي آواه رغم يُتمه وربَّاه وكمَّله، والمعهود في اليتيم أنَّه لا يجِدُ مَن يُربّيه ولا مَن يعتَنِي به فينشَأ على طريقةٍ غير مرضيَّةٍ، لكنَّه
ﷺ نشَأ على الخُلُقِ العظيم، وسمَّاه قومُه الصادق الأمين، فهذه آية إيواء الله له وعنايته به منذ نشأته.
﴿وَوَجَدَكَ ضَاۤلࣰّا فَهَدَىٰ﴾ الضلال هنا ليس ذاك الذي هو ضِدُّ الهدى، بل هو الحَيرة ممَّا يرى قومه فيه من الشرك والوثنيَّة، وما يراه في سائر الناس من اضطرابٍ في تصوُّراتهم الدينيَّة، فكان يُنكِر ذلك بفطرته السليمة وما حباه الله من رعايةٍ وعنايةٍ، لكنَّه لم يكن يعرِف شريعةً، ولا وحيًا، أو كتابًا، فاعتزل قومه حتى هداه الله بهذه الرسالة الشاملة؛ فكان الهادي المهدي
ﷺ.
﴿وَوَجَدَكَ عَاۤىِٕلࣰا فَأَغۡنَىٰ﴾ أي: وجدك فقيرًا، ففتَحَ لك بابًا من الرزق من تجارةِ خديجة ، فأغنَاك عن الحاجةِ لأحدٍ، ولم يكن
ﷺ غنيًّا بالمعنى المعروف لا قبل النبوَّة ولا بعدها، وقد وهِمَ من فسّر هذا بالفَيء والغنائِم؛ لأنَّ هذه لم تكُن إلَّا بعد الهجرة وإقامة الدولة، بينما هذه السورة مكِّيَّة ومِن أوائل ما نزل، كما هو بيِّنٌ مِن السياق.
﴿فَأَمَّا ٱلۡیَتِیمَ فَلَا تَقۡهَرۡ﴾ هذا توجيهٌ عمليٌّ لكلِّ مُسلِمٍ وإن كانت صورة الخطاب له
ﷺ؛ إذ هو المُبلِّغ عن الله، ومضمُون هذا التوجيهِ الاحتِياط الشديد في التعامُل مع اليتيم فلا ينبَغِي جرحه ولو بعبارةٍ أو إشارةٍ، ومجيء هذا التوجيه في بدايات العهد المكِّي دليلٌ على أنَّ القرآن ربطَ من بداية نزوله بين المنظومتَين: الإيمانيَّة، والقِيميَّة.
﴿وَأَمَّا ٱلسَّاۤىِٕلَ فَلَا تَنۡهَرۡ﴾ وهذا توجيهٌ كسابقه، ويُقصَدُ به الاحتياط في التعامل مع المساكين والفقراء، ولو كان المسؤول لا يَملِكُ شيئًا للسائل، فلا أقلّ مِن أن يتلطَّف له بالقول، والأظهرُ أنَّ هذا هو المقصود بالسائل؛ إذ هو المُعرَّض للنهر، أمَّا السائل عن العلم والدين فليس مُعرَّضًا لذاك، والله أعلم.
ويجدُرُ التنبيهُ هنا أنَّ هذا هو أدَبُ المسؤول، أمَّا السائِل فقد ورَدَت بحقِّه آداب تُناسِبه؛ منها قوله تعالى:
﴿لَا یَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافࣰـاۗ﴾ [البقرة: 173]، أمَّا إذا استشَرت ظاهرة التسوُّل واتُّخِذت مهنة فلا بُدَّ مِن وقفةٍ حازمةٍ تجاهها من الدولة، ومن المجتمع، مع تأكيد ضرورة توفير فُرص العمل، وسدّ حاجة الفقراء بالصدقة، أو من المال العام.
﴿وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ﴾ التحدُّثُ بالنعمة يعني: إظهارها وإظهار شُكرِها، فإن كانت النعمة من العلم أو الدين كان إظهارها من الدعوة المطلوبة، وأمَّا الأنبياء
عليهم السلام فنعمتهم إنَّما هي نبوتهم ووحيُ الله لهم؛ ومِن ثَمَّ كان إظهارها والتحدُّث بها جزءًا من وظيفتهم.
وهذا التوجيهُ الربَّانيُّ يَدحَضُ ما يَشِيعُ عند بعض الناس اليوم من عدم إظهار نعمةِ الله عليه، فيدَّعِي المرضَ وهو مُعافًى، ويدَّعِي الفقرَ وهو غنيٌّ؛ ظنًّا منه أنَّ هذا يدفَعُ عنه الحسَدَ وشبهه، وهذا وَهْمٌ؛ فالحسَدُ إنَّما يُدفَعُ بالتوكُّل على الله، وفِعلِ الخيرِ مع الناس، والله أعلم.