سورة العلق تفسير مجالس النور الآية 2

خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة العلق

المجلس التسعون بعد المائتين: اقرأ باسم ربِّك


سورة العلق


سورة العلق أوَّل سور القرآن نزولًا، وبها بدأَت النبوَّة واستهلّت الرسالة، وأشرَقَت هذه الأرض بنور ربها، وكانت الإشارة الأولى أنّ هذه الرسالة إنّما هي رسالة القراءة والكتابة، رسالة العلم والتعليم، رسالة الهدى والتقَى، لا يَحِيد عنها إلَّا هالِك، هذه هي سورة العلق أو سورة (اقرأ)، والتي يمكن أن نُلخِّص معانيها فيما يأتي:
أولًا: استهلّت السورة بفعل الأمر: (اقرأ)؛ للدلالة على أنّ هذه الرسالة رسالة علمٍ وقراءةٍ ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ﴾ ثم تأكَّد هذا المعنى بتكرار فعل القراءة مقرونًا بالعلم، وبأداة تدوين العلم وتوثيقه، وهي القلم ﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ﴿٣﴾ ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾.
ويلحظ هنا أيضًا ارتباط الأمر بالقراءة، مع التنويهِ بخَلقِ الإنسان إشارة إلى أنّ هذا الإنسان إنّما يسمُو بالعلم، مع التأكيد أنّ مصدرَ العلم هو نفسه مصدر الخلق؛ فالذي خَلَقَ هو الذي علَّم، وهذا منطِق العقل والفطرة ﴿أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]، فكما أنّ الخلق كلّه قد صدر عنه سبحانه، فالعلم كذلك، وهل العقل الذي هو وعاء العلم إلَّا خَلقٌ مِن خَلقِهِ سبحانه؟
ثانيًا: ثم ينتقل السياق إلى ذلك الإنسان الذي ينسَى خلقه وأصل نشأته فيطغَى، ويظنُّ أنَّه مُستغنٍ عن خالقه فيأمر وينهى بغير حقٍّ، ويمنع الناس عن ذكر ربِّهم وعبادته، وهو غافلٌ عن آخرته، جاهلٌ بقدرة ربِّه عليه وعلمه به ﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ ﴿٦﴾ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ ﴿٧﴾ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰۤ ﴿٨﴾ أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یَنۡهَىٰ ﴿٩﴾ عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰۤ ﴿١٠﴾ أَرَءَیۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۤ ﴿١١﴾ أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰۤ ﴿١٢﴾ أَرَءَیۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰۤ ﴿١٣﴾ أَلَمۡ یَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ یَرَىٰ﴾.
والربط بين هذه الآيات وما قبلها يُشير إلى أنَّ الابتعاد عن منهج الله في العلم والتعلُّم يُثمِرُ هذه الثمار السيئة في التعامل مع الخلق؛ حيث يسُود الجهل، ويسُود الطغيان، وهما قرينان لا يفترقان.
ثالثًا: ثم تختتم السورة بتهديدٍ شديدٍ لأولئك الخارجين عن منهج الله، المُعتَدين على خلق الله ﴿كَلَّا لَىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِیَةِ ﴿١٥﴾ نَاصِیَةࣲ كَـٰذِبَةٍ خَاطِئَةࣲ ﴿١٦﴾ فَلۡیَدۡعُ نَادِیَهُۥ ﴿١٧﴾ سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِیَةَ ﴿١٨﴾ كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡ وَٱقۡتَرِب ۩﴾.


﴿ٱقۡرَأۡ﴾ أمرٌ بالقراءة، وهي بحقِّ رسول الله قراءةٌ من مسموعٍ لا من مكتوبٍ؛ لأنَّه كان أُميًّا، فهو يتلُو ما يسمعه من جبريل عليه السلام.
﴿بِٱسۡمِ رَبِّكَ﴾ فيها وجوهٌ كثيرةٌ تتكامل ولا تتعارض:
منها: ابتداء القراءة بالتسمية، كما هو شأن المسلم في كلِّ شؤونه من أكلٍ وشربٍ، ولبسٍ وذبحٍ وغيرها.
ومنها: استِحضار معيَّة الله ورقابته، أي: استِحضار النيَّة الصالحة والقصد المرضيِّ عند الله، فيقرأ لا رياءً ولا سمعةً، ولا مباهاةً، أو تكسُّبًا.
ومنها: اعتِقاد أنّ الله تعالى هو مصدر العلم، وهو الذي يُعلِّمُنا ما لا نعلم، كما جاء هذا المعنى في قوله الآتي: ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾.
﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ﴾ أي: خلق الإنسان من علقة لا تعِي ولا تعلَم شيئًا، ثم علَّمَه ما لم يكن يعلَم، فالله هو مصدر الخلق ومصدر العلم.
﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ﴾ أي: اقرأ وأنت تستشعر فضل الله عليك ولطفه وكرمه.
﴿ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ﴾ أي: علَّم الإنسان الكتابة بالقلم، وهيَّأَه لإتقان هذه الوسيلة في توثيق معلوماته، ولو فكَّر الإنسان في كفِّه وتوزيع أصابعه عليها وطول كلِّ إصبعٍ، لعلم أنها مهيّأة بالفعل للكتابة ونحوها من أسباب التعلُّم، والأمور الدقيقة في الصناعة والعمران، فلا يوجد مخلوقٌ على الأرض يملِك مثل هذه الأداة، كما أنَّه لا يوجد مخلوقٌ غير الإنسان يمتلِك هذا العقل الذي يستقبل فيه المعلومات ويُحلِّلها، ويحفظها ويبني عليها؛ ولذلك أتمَّ الله هذا المعنى بإطاره الأعمّ فقال: ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾.
﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ ﴿٦﴾ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ بمعنى أنَّ الإنسان يجنَح إلى الطغيان حينما يرى نفسه مُستغنيًا بماله وجاهه وقوته، وهذا من تمام غُروره وجهله؛ فلو فكَّر في خلقه من علقةٍ مهينةٍ، ثم موته الذي لا يملِك له دفعًا، لاعتَرَف بضعفه وعرف قَدرَ نفسه، وهذا ما دعَا القرآنُ إلى التنبُّهِ له ﴿إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰۤ﴾ أي: الرجُوع يوم القيامة.
﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یَنۡهَىٰ ﴿٩﴾ عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰۤ﴾ هذا مظهَرٌ من مظاهر الطغيان؛ أن ينهَى مَن يظنُّ في نفسه القوَّة غيره عن الصلاة، وكأنَّه يُريد أن يستعبِد الناس، وقد جاء الاستفهام لغرض التشنيع على هذا الظُّلم. والذي يظهَر هنا أنَّ هذه الآيات التي تتحدَّث عن الطغيان ومنع الصلاة، جاءت متأخِّرة في النزول عن صَدر السورة؛ لأنَّها تتكلَّم عن موقفٍ من مواقِف قريش في صدِّها عن هذه الدعوة، ولا شكَّ أنَّ هذا إنَّما كان بعد أن ذاعَ خبرُ الدعوة وانتشر بين الناس، والله أعلم.
﴿أَرَءَیۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۤ ﴿١١﴾ أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰۤ﴾ أي: أرأَيتَ لو كان ذلك المُصلِّي على الهُدى وآمرًا بالتقوى - والإشارة هنا إلى رسول الله -، أي: كيف يتجرَّأ عليه ذلك الذي ينهَاه عن صلاته، والمقصود أنَّ ذلك الطاغِية لو فكّر مليًّا، لوضع في حسبانه احتمال كَون هذا المُصلِّي على الحقِّ، وأنَّ ما عنده نافعٌ له، فلماذا يُسارِعُ بالصدِّ والمنع؟
﴿أَرَءَیۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰۤ﴾ أي: أرأَيتَ إلى مُسارعته هذه بالتكذيب والإعراض؟ وجوابه مُتضمّنٌ في قوله تعالى الآتي: ﴿أَلَمۡ یَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ یَرَىٰ﴾ بمعنى أنَّه لو آمَنَ بالله، لما كذَّب ذلك التكذيب، ولا طغَى ذلك الطغيان، وهذا الجوابُ فيه توطئة للتهديد الآتي:
﴿كَلَّا لَىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِیَةِ﴾ أي: لئِن لم ينتَهِ عن طغيانه وعدوانه، لنأخُذَنَّ بناصيته أخذًا شديدًا عنيفًا، والناصية: مُقدِّمة الرأس.
﴿نَاصِیَةࣲ كَـٰذِبَةٍ خَاطِئَةࣲ﴾ أي: كاذِبة في أقوالها، خاطِئة في أفعالها، وعبَّر بالناصية هنا عن ذات الشخص كلّها، ولا يبعُد أن تكون الناصية هي محلّ القرار واتخاذ المواقف؛ حيث ثبَتَ علميًّا أنَّ خلايا المخ موزَّعةٌ إلى مجموعاتٍ؛ كلّ مجموعةٍ مسؤولة عن وظيفةٍ معيّنةٍ، والله أعلم.
﴿فَلۡیَدۡعُ نَادِیَهُۥ﴾ أي: ليستنصِر بأصحابه وأعوانه، وهذا على سبيل التعجيز والتهكُّم به وبنادِيه، والمقصود بالنادي هنا: نادي قريش الذي كانت تجتمع فيه لبحث شؤونها، وتدبير أمورها.
﴿سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِیَةَ﴾ أي: سنُكلِّفُ به الزَّبانية، وهم ملائكة العذاب، وأصل اللفظة: من الزَّبْن، وهو الدفع بقوّة.
﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ﴾ الخطاب لرسول الله بعد أن نهاه أبو جهل عن الصلاة.
﴿وَٱسۡجُدۡ وَٱقۡتَرِب ۩﴾ أي: اسجُد طاعةً وتقرُّبًا لربك، وإرغامًا لأنف عدوّك.