﴿إِنَّـاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ﴾ أي: القرآن الكريم، وأتَى بالضمير الدالِّ عليه؛ تنويهًا على أنَّه معلومٌ وحاضرٌ في الذهن، فلا يتبادر إلى الذهن غيره.
﴿فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ﴾ سُمِّيت بذلك تعظيمًا لها؛ لأنَّ القَدْر هو المنزلة العظيمة، والمكانة الرفيعة، وكَون القرآن أُنزِل فيها يعني أنّه بدأ نزوله فيها؛ لأنّه من المقطوع به أنَّ القرآن لم ينزِل جملةً واحدةً، بل نزَلَ مُفرَّقًا بحسب الحوادث والنوازل، ومراحل الدعوة المختلفة، ففي هذه الليلة بدأت نبوَّة سيدنا محمد
ﷺ، وهذا سرُّ تعظيمها، وهذا أَولَى من قول مَن يقول: إنَّ النزول يعني نزوله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
والصحيحُ: أنَّها ليلةٌ مكررةٌ في كلِّ سنةٍ؛ إذ لا معنى لتحرِّيها إلَّا هذا، ولأنَّها ليلةٌ مُحدَّدةٌ بحدثٍ معينٍ، وهو نزول القرآن، فالأرجَح أنَّها ليلةٌ ثابتةٌ مِن ليالي رمضان، وليست مُتنقِّلة في ليالِيه، وأنّها في عُشرِه الأواخر؛ لورود الأحاديث بذلك، وأمَّا إخفاؤها فذلك لحكمةٍ تربويَّةٍ حتى يتشوَّف الناس لها، ويحتاطون في تحرِّيها، فتعمّ الأعمال الصالحة على مساحةٍ أوسَع من الزمن.
ويُضاف إلى ذلك حِكمة أخرى، وهي أنّ إثبات دخول الشهر لا يكون بوحيٍ من الله، وإنَّما باعتماد رؤية الهلال، وهذه قضيةٌ بشريَّةٌ لا يمكن الجَزم بها، ورُبَّما اختلَفَت باختلاف المطالع، وحالة الصَّحْو أو الغَيْم؛ ولذلك تختلِفُ البلاد فيه، وأمَّا ليلةُ القدر التي هي عند الله فهي ليلةٌ مُحدَّدةٌ، ومِن ثَمّ كان هذا الأمر بتحرِّيها في أكثر من ليلةٍ، والله أعلم.
﴿وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ﴾ هذا استفهامٌ يُقصَدُ به تعظيم المُستفهَم عنه، وتشويق السامِع لمعرفة جوابِه.
﴿لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَیۡرࣱ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرࣲ﴾ بفضلها ومنزلتها عند الله، وكذلك ببركتها على الأرض من حيث مضاعفة الحسنات، واستجابة الدعوات، ولو لم يكن ذلك، لما كان لتحرِّيها في كلِّ عامٍ مغزى، بل هذه هِبَة المولى الجليل لعباده الموفَّقين لطاعته، وهي تعظيمٌ لهذا القرآن، وتنبيهٌ للناس أن يعتَنُوا به تلاوةً وتدبُّرًا وعملًا، وهي كذلك إكرامٌ لرسول الله
ﷺ؛ لأنّها مبتدأ نُبوَّته، وذكرى اصطفائه على الناس بهذا الوحي وهذه الرسالة العظيمة.
﴿تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم﴾ هذا مظهرٌ عظيمٌ من مظاهِر تعظيم الله لهذه الليلة المباركة؛ حيث تتنزَّل الملائكة ومعهم جبريل
عليه السلام من السماء إلى الأرض يُبارِكون المؤمنين ويدعُون لهم، وهذا النزول إنَّما هو بإذنٍ من الله السميع العليم.
﴿مِّن كُلِّ أَمۡرࣲ﴾ أي: إنَّ نزولَ الملائكة مع ما فيه من تعظيمٍ لذكرى نزول القرآن، واتِّصال الأرض بالسماء، فيه أيضًا تنفيذٌ لأوامر الله العَليَّة التي كتب أن يَقضِيها في هذه الليلة المباركة، والتي قال عنها في سورة
الدخان:
﴿فِیهَا یُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِیمٍ ﴿٤﴾ أَمۡرࣰا مِّنۡ عِندِنَاۤۚ﴾ [الدخان: 4، 5].
﴿سَلَـٰمٌ هِیَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ﴾ فالليلة هذه كلّها سلامٌ وخيرٌ وبركةٌ، وقد جاء تأكيدُ هذا المعنى احترازًا؛ لأنَّ الملائكة حينما تنزِل بأمر الله قد يكون نزولها لإهلاك قومٍ وتدميرهم، فكان هذا الاحتِراز أنَّ ليلةَ القدرِ سلامٌ كلها، ولن تنزِل ملائكةُ الله فيها إلَّا بالسلام، والإشارة هنا إلى أنَّ القرآن هو رسالةُ السلام؛ ولذلك كانت ليلة نزوله هي ليلة السلام.