سورة يونس تفسير مجالس النور الآية 98

فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡیَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَاۤ إِیمَـٰنُهَاۤ إِلَّا قَوۡمَ یُونُسَ لَمَّاۤ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡیِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ ﴿٩٨﴾

تفسير مجالس النور سورة يونس

المجلس السابع والثمانون: الأنبياء السابقون في مواجهة الشرك والظلم


من الآية (71- 98)


في هذه الآيات ينتقل القرآن من أجواء مكة والمعركة المحتدمة بين التوحيد والشرك إلى أعماق التاريخ البشري ليعرض نماذج أخرى لهذا الصراع:
كان النموذج الأول نوحًا عليه السلام الذي واجه أصناما شبيهة بأصنام مكة.
أما النموذج الثاني فكان موسى عليه السلام الذي واجه أصنامًا من نوعٍ آخر؛ فرعون وهامان وجنودهما، في تجربة طويلة ومليئة بالأحداث والتطوُّرات؛ مما يؤهلها لتكون المدرسة التاريخية الأكبر لكلِّ مصلح وداعية.
أما النموذج الثالث فكان يونس عليه السلام والذي سُمِّيت السورة باسمه، وهي تجربة قصيرة في السياق القرآني، لكنها تفتح بابًا واسعًا للأمل والرجاء.
أما الدروس المستنبطة من هذه النماذج الدعويَّة الكبيرة فيمكن تلخيصها في الآتي:
أولًا: أن الشرك بكلِّ ألوانه ظاهرةٌ بشريَّةٌ متكررة من فجر التاريخ، وهذه الظاهرة مدعُومة بعناد نفسي شديد وصلابة مجتمعيَّة متينة؛ بحيث إن دعوة الأنبياء مع ما فيها من معجزاتٍ حسِّيَّة ومعنويَّة، وما فيها من قوة البيان وقوة الحجَّة، وما يتَّصِف به الأنبياء من خلالٍ حميدة، وصفاتٍ كريمة، ونورٍ ظاهر في سلوكهم وحياتهم، إلا أنها في الغالب قد اصطدمت بهذا الجدار الصلد الذي لا يرى ولا يسمع ولا يفكِّر.
فهذا نوح عليه السلام يقول: ﴿یَـٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكُم مَّقَامِی وَتَذۡكِیرِی بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوۤاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَاۤءَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَیۡكُمۡ غُمَّةࣰ ثُمَّ ٱقۡضُوۤاْ إِلَیَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾ وبعد نوح لم يتغير الموقف مع كلِّ الأنبياء اللاحقين ﴿ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَمَا كَانُواْ لِیُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ﴾، وفي موسى وأخيه عليهما السلام: ﴿ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِیْهِۦ بِـَٔایَـٰتِنَا فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمࣰا مُّجۡرِمِینَ﴾ وهكذا حتى صارت كأنها سنَّة ثابتة ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ حَقَّتۡ عَلَیۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ ﴿٩٦﴾ وَلَوۡ جَاۤءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَایَةٍ حَتَّىٰ یَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِیمَ﴾.
ثانيًا: الحالة الوحيدة التي يذكرها القرآن استثناء من ذلك السياق هي حالة يونس عليه السلام مع قومه ﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡیَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَاۤ إِیمَـٰنُهَاۤ إِلَّا قَوۡمَ یُونُسَ لَمَّاۤ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡیِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ﴾.
ومن هنا تكتسب هذه القصَّة أهميتها وتميُّزها؛ لأنها تفتح بابًا من الأمل، خاصةً أن قوم يونس - وهم أهل الموصل شمال العراق - كانوا مجتمعًا كبيرًا قياسًا بذلك العصر ﴿وَأَرۡسَلۡنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ یَزِیدُونَ ﴿١٤٧﴾ فَـَٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ﴾ [الصافات: 147، 148].
ثالثًا: القرآن يكشف سرَّ ذلك العناد والمكابرة الباطلة ﴿قَالُوۤاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِیَاۤءُ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ إنه الخوف على فوات المكاسب الماديَّة والمعنويَّة التي يمتاز بها الطغاة وحواشِيهم عن سائر الناس، نتيجةً للمعتقدات والخرافات التي تمنَحهم مثل هذا التميُّز، والتي تقومُ بدورها في تخدير العامة والرضا بالفُتات الذي يترُكُه لهم أولئك الطواغيت، إنهم يخافون أن تحرِمَهم هذه الدعوة من كبريائهم، وأن تأتي بمن يُنافِسهم عليها، وهذا هو دَيدَن الطواغيت في كلِّ عصر.
رابعًا: أن الباطل يستخدم كلَّ ما عنده لمواجهة الحقِّ؛ المال، والقوة، والإعلام، والمكر وغيرها ﴿فَلَمَّا جَاۤءَهُمُ ٱلۡحَقُّ مِنۡ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ وهذا تشويهٌ وتشويش، ثم راحوا يحاربون السحر- بزعمهم - بالسحر ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ٱئۡتُونِی بِكُلِّ سَـٰحِرٍ عَلِیمࣲ﴾ فلما بطل سحرهم راحوا إلى المال والقوَّة ﴿رَبَّنَاۤ إِنَّكَ ءَاتَیۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِینَةࣰ وَأَمۡوَ ٰ⁠لࣰا فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا رَبَّنَا لِیُضِلُّواْ عَن سَبِیلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ﴾، ﴿فَمَاۤ ءَامَنَ لِمُوسَىٰۤ إِلَّا ذُرِّیَّةࣱ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفࣲ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِیْهِمۡ﴾.
خامسًا: أن المؤمنين الموحِّدين عليهم أن يتهيَّأوا لهذه الشدائد، وأن يثبتوا ويستعدُّوا لمواجهتها ﴿فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوۤاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَاۤءَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَیۡكُمۡ غُمَّةࣰ ثُمَّ ٱقۡضُوۤاْ إِلَیَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾، ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ یَـٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَیۡهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِینَ ﴿٨٤﴾ فَقَالُواْ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةࣰ لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾.
سادسًا: أن العاقبة دائمًا ليست في صالح الظالمين المكذِّبين ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّیۡنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَاۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِینَ﴾. ﴿فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡیࣰا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِیۤ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوۤاْ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ ﴿٩٠﴾ ءَاۤلۡـَٔـٰنَ وَقَدۡ عَصَیۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ ﴿٩١﴾ فَٱلۡیَوۡمَ نُنَجِّیكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَایَةࣰۚ﴾.
وبخلاف فرعون وقومه كان حال أولئك المؤمنين الذين ثبتوا مع موسى في مواجهة فرعون ﴿وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ مُبَوَّأَ صِدۡقࣲ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ﴾ وهذه هي سنَّة الله الماضية مهما ارتفع الباطل وطغى ﴿وَیُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾.
سابعًا: أن العلم والتثبُّت من المعارف والحقائق هو طريق الحقِّ، وهو الذي يعصِمُ أهله من الزَّلَل والشطط ﴿فَٱسۡتَقِیمَا وَلَا تَـتَّـبِعَاۤنِّ سَبِیلَ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ﴾. ﴿فَإِن كُنتَ فِی شَكࣲّ مِّمَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِینَ یَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَاۤءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ﴾.


﴿كَبُرَ عَلَیۡكُم مَّقَامِی وَتَذۡكِیرِی بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ﴾ شقَّ عليكم بقائي معكم ودعوتي لكم.
﴿فَأَجۡمِعُوۤاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَاۤءَكُمۡ﴾ احسِمُوا رأيَكم، واستَعينُوا بأوثانكم، على سبيل التحدِّي والتهكُّم.
﴿ثُمَّ لَا یَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَیۡكُمۡ غُمَّةࣰ﴾ لا تعملوا بالخفاء، بل صارحوني وواجهوني.
﴿ثُمَّ ٱقۡضُوۤاْ إِلَیَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾ نفِّذُوا فيَّ تهديدَكم ووعيدَكم ولا تُؤخِّرون.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ استمرُّوا في تكذيبه.
﴿وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ﴾ باقِين في الأرض بعد أن أهلَكَ الله الآخرين بالطوفان.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِینَ﴾ إشارة إلى أن الظلم والعدوان وإرادة الشر من أشدِّ أسباب الضلال، والعياذ بالله.
﴿أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَا﴾ لتصرفنا عن عادات آبائنا وأجدادنا؟
﴿أَلۡقُواْ مَاۤ أَنتُم مُّلۡقُونَ﴾ ما تريدون إلقاءه من حبال وعصي، وفيه معنى التعجيل والتحدّي.
﴿وَیُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ﴾ يظهره ويقويه ويثبته.
﴿إِلَّا ذُرِّیَّةࣱ مِّن قَوۡمِهِۦ﴾ أولاد من بني إسرائيل، وفيه إشارة إلى أن الشباب أجرأُ على التغيير وأقوى على المواجهة.
﴿عَلَىٰ خَوۡفࣲ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِیْهِمۡ﴾ خوفهم من فرعون ظاهر، وأما خوفهم من ملئهم فمعناه: أن آباءهم وكبار قومهم سيمنعونهم خوفًا عليهم من فرعون، وهذا معروف ومتكرر في كلِّ الدعوات الإصلاحية؛ حيث يستشري الخوف والرعب عند المظلومين، فينقلب الجميع إلى أدواتٍ بيد الظالم لكبح حالات الخروج والعصيان ولو كانت من أولادهم.
ويحتمل أن يكون الملأ ملأ فرعون، وأضافهم إلى ضمير الجمع إشارة إلى قوة فرعون وجمعه لكلِّ السلطات.
﴿أَن یَفۡتِنَهُمۡۚ﴾ وكان السياق يقتضي أن يقول: أن يفتِنوهم، لكنه أفرد الأمر لفرعون وحده، وفي هذا إشارة لا تَخفَى.
﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةࣰ﴾ موضعًا للفتنة، وهي هنا التعذيب والتنكيل وما يتبعهما.
﴿أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُیُوتࣰا﴾ اتخِذا لكما ولبني إسرائيل معكما مساكِن خاصة بكم.
﴿وَٱجۡعَلُواْ بُیُوتَكُمۡ قِبۡلَةࣰ﴾ أماكن للعبادة والصلاة، بعد أن منَعَهم فرعون من بناء معابدهم وإظهار شعائرهم؛ ولذلك قال بعدها: ﴿وَأَقِیمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ﴾.
﴿رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ﴾ امحَقها وامحُ آثارها.
﴿وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا یُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ یَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِیمَ﴾ لأنهم في كلِّ مرة كانوا يستَجِيرُون به لدفع العذاب ويعِدُونه بالإيمان كما في سورة الأعراف: ﴿لَىِٕن كَشَفۡتَ عَنَّا ٱلرِّجۡزَ لَنُؤۡمِنَنَّ لَكَ﴾ [الأعراف: 134]، فعندما يرفعه الله عنهم ينكثون ويعودون إلى كفرهم وظلمهم، فهو إيمانٌ زائفٌ مخادع، وهذا ما رغِبَ فيه موسى إلى ربه أن لا يتكرر، أما لو علم أنهم سيؤمنون بالله حقًّا وصدقًا، فلا شك أن هذا هو غايةُ الرسل عليهم السلام.
﴿قَالَ قَدۡ أُجِیبَت دَّعۡوَتُكُمَا﴾ إشارة إلى أن هارون كان شريكًا لموسى في هذا الدعاء وإن لم يذكره أولًا.
﴿۞ وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ﴾ عبَرنا بهم البحر، وكانت هذه آية من الله ومعجزة لموسى؛ لأن البحر قد انكشف لهم حتى عبَروه إلى الضفة الأخرى بسلام.
﴿فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡیࣰا وَعَدۡوًاۖ﴾ تعقَّبَهم وطارَدَهم ظُلمًا وعدوانًا.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ﴾ لأنه ظن أن انكشاف البحر ظاهرة لا علاقة لها بموسى ومَن معه، فكان أن أغرَقَه الله بغروره الأخرق، وظنِّه الفاسد.
﴿قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِیۤ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوۤاْ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ لا يبعُد أن يكون إيمانه هذا كالمرَّات السابقة، كأنه يُخادِعُ الله، والله أعلم بالقلوب، لكن الذي يرجح هذا ردُّ الله عليه، وعدم قبوله منه: ﴿ءَاۤلۡـَٔـٰنَ وَقَدۡ عَصَیۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.
ومن يعرِف سِيَر الطواغيت لا يستغرب هذا، فهؤلاء تعلموا السياسة والمكر وتغيير المواقف بحسب ما تقتضيه مصلحتهم، ولما تكرر منه ادِّعاء الإيمان سابقًا لرفع الرجز، ظنَّ أنَّ هذا ماضٍ مع الله سبحانه، وقد أثبت القرآن أن فرعون قبل هذه اللحظة كان يعلَمُ صِدق موسى وصدق الآيات التي جاء بها ﴿قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَاۤ أَنزَلَ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَاۤىِٕرَ وَإِنِّی لَأَظُنُّكَ یَـٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورࣰا﴾ [الإسراء: 102]، لكنه عنادُ القوة وكِبرياء السُّلطة، والله أعلم.
﴿فَٱلۡیَوۡمَ نُنَجِّیكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَایَةࣰۚ﴾ وهذه آيةٌ خالدةٌ إلى يومنا هذا لا يُنكِرها إلا مُكابِر.
﴿وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ مُبَوَّأَ صِدۡقࣲ﴾ أنزلناهم منزلًا مباركًا، وهم الذين استقرُّوا في يثرب، وهي انتِقالةٌ سريعةٌ في التسلسل التاريخي، ويشهد لهذه الانتِقالة انتِقال الخطاب بعدها مباشرةً إلى رسول الله .
﴿فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ﴾ القرآن.
﴿فَإِن كُنتَ فِی شَكࣲّ مِّمَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ﴾ خطابٌ لكلِّ سائلٍ وشاكٍّ من خلال المبلِّغ ، وإلا فإن رسول الله لا يشكُّ فيما يُوحَى إليه أبدًا، ونحو هذا قوله: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ﴾.
﴿فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِینَ یَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ﴾ استِشهادٌ على المُشركين بما عند أهل الكِتاب مِن العلم، والظاهرُ: أنّه في القصص القُرآني المُوافق لما في الكُتب السابِقة، كقصة مُوسى عليه السلام مع فرعون، والله أعلم.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ﴾ الشاكِّين والمُرتابين.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ حَقَّتۡ عَلَیۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ أي: ثبَتَت عليهم سنَّة الله في خلقه أنَّ من طلب الهداية هُدِي، ومن طلب الضلالة ضَلَّ، فكلُّ نفس تتحمل مسؤوليتها وعاقبة أمرها، وكلُّ ذلك بإرادة الله وعلمه السابق.
﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡیَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَاۤ إِیمَـٰنُهَاۤ﴾ فهلا آمَنَت تلك القرى قبل أن يأتيهم العذاب، والصيغة فيها معنى النفي، ثم استثنَى من هذا النفي قومَ يونس ﴿إِلَّا قَوۡمَ یُونُسَ لَمَّاۤ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡیِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ﴾ وهذه ميزةٌ شريفةٌ وجليلةٌ لأهل الموصل.