سورة هود تفسير مجالس النور الآية 95

كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡاْ فِیهَاۤۗ أَلَا بُعۡدࣰا لِّمَدۡیَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ ﴿٩٥﴾

تفسير مجالس النور سورة هود

المجلس الثالث والتسعون: شعيب


من الآية (84- 95)


في قصة شعيب عليه السلام يعرض القرآن لنا نموذجًا آخر، وهو نموذج متكرر في الحياة البشرية، لا سيما تلك المجتمعات المدنية التي تستند في الغالب إلى القيم المادّية، فيكون المال هو الغاية الأسمى ومعيار التفاضل، فينساق الناس في ساحة من المنافسة للجمع والاستحواذ مهما كانت الطرق والوسائل، وهنا تكون مهمة النبيِّ الكريم مهمة مزدوجة، فهو عليه أن يقدّم البديل الأصلح لصناعة المجتمع الإنساني الكريم، ومن ناحية أخرى عليه أن يعالج أصل الداء، وهو الكفر وغياب العقيدة الأخروية التي تحدّ من هذا الطمع والجشع، وتتلخَّص هذه التجربة الإصلاحية في الآتي:
أولًا: تقوم دعوة شعيب عليه السلام على ركنَين اثنَين: التوحيد، والعدل ﴿۞ وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥ ۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡیَالَ وَٱلۡمِیزَانَۖ﴾ وهو يسوقهما سوقًا واحدًا دون فصل أو تأخير في إشارة إلى أن إنقاذ الناس من الظلم لا يقل أهمية عن إنقاذهم من الكفر؛ إذ كلاهما مرتبط بالآخر ويصلح علّة له، فالكفر يؤدّي إلى الظلم، والظلم يؤدِّي إلى الكفر.
ثانيًا: الظلم الاقتصادي مقدمة للظلم العام والفساد الأكبر والأوسع ﴿وَیَـٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡیَالَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ﴾ وهذه حقيقة مؤكّدة ومجرّبة، فالرشوة مثلا لا تعني أكل المال الحرام فقط، بل هي أداة لتخريب المؤسسات كلها بما فيها السياسية والتربوية والقضائية، وهكذا كل الجرائم الاقتصادية.
ثالثًا: لحساسية التدخل في الوضع المادي للناس، قدم شعيب نفسه بصورة مكشوفة لقومه من خلال النقاط الآتية:
- أنه واضح معهم يتكلم بالحجة والدليل ﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی﴾.
- أنه من الطبقة الغنيّة في المجتمع؛ حتى لا يكون دفاعه عن المظلومين كأنه دفاع عن نفسه، ﴿وَرَزَقَنِی مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنࣰاۚ﴾.
- أنه باستطاعته أن يفعل كما يفعل الأغنياء، لكنه ألزم نفسه بغير ذلك ﴿وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَاۤ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ﴾.
- أنه يسعى للإصلاح العادل والشامل ﴿إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ﴾.
رابعًا: حذَّر شعيبٌ قومَه أن يُصيبَهم مثل ما أصاب الأمم السالفة، مُنبِّهًا أن العداء الشخصي قد يكون سببًا للمكابرة ومزيد من العناد ﴿وَیَـٰقَوۡمِ لَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِیۤ أَن یُصِیبَكُم مِّثۡلُ مَاۤ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَـٰلِحࣲۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطࣲ مِّنكُم بِبَعِیدࣲ﴾.
خامسًا: رغَّبَهم بالتوبة وتصحيح موقفهم ﴿وَٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی رَحِیمࣱ وَدُودࣱ﴾.
سادسًا: في مقابل هذا الحلم وهذه الحكمة اتخذ قومه موقفا آخر اتسم بالسخرية تارة ﴿قَالُواْ یَـٰشُعَیۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَاۤ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِنَا مَا نَشَـٰۤؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِیمُ ٱلرَّشِیدُ﴾ وتارة يجمعون إليها الوعيد والتهديد ﴿قَالُواْ یَـٰشُعَیۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِیرࣰا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِینَا ضَعِیفࣰاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَـٰكَۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡنَا بِعَزِیزࣲ﴾.
سابعًا: استمرّ شعيب بمحاورتهم حتى بعد التهديد ﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَهۡطِیۤ أَعَزُّ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَاۤءَكُمۡ ظِهۡرِیًّـاۖ إِنَّ رَبِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ ﴿٩٢﴾ وَیَـٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّی عَـٰمِلࣱۖ سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن یَأۡتِیهِ عَذَابࣱ یُخۡزِیهِ وَمَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱۖ وَٱرۡتَقِبُوۤاْ إِنِّی مَعَكُمۡ رَقِیبࣱ﴾
ثامنًا: أصرّ قومه على طريق الكفر والظلم والفساد فاستوجبوا ما استوجبته الأمم السالفة، ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ أَمۡرُنَا نَجَّیۡنَا شُعَیۡبࣰا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةࣲ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ ٱلصَّیۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِی دِیَـٰرِهِمۡ جَـٰثِمِینَ﴾.


﴿۞ وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ﴾ ناحية بين الحجاز والشام.
﴿إِنِّیۤ أَرَىٰكُم بِخَیۡرࣲ﴾ في سَعةٍ ورزقٍ كثيرٍ.
﴿بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ بالعدل.
﴿بَقِیَّتُ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ﴾ ما أبقاه الله لكم من الحلال.
﴿إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِیمُ ٱلرَّشِیدُ﴾ على سبيل الاستِغراب، كأنهم يقولون له: لقد عرفناك فينا حليمًا رشيدًا، فكيف تأتينا بهذا الدين المُستغرَب؟ فهو اعترافٌ بمكانته عندهم؛ لأنه كان من أهل الغِنَى، وهذه مقاييسُ الاحترام في المجتمعات الطبقيَّة، ولا يبعُد أن يكون قولُهم هذا على سبيل الاستهزاء والتهكُّم بعد أن خالَفَهم فيما هم عليه.
﴿لَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِیۤ﴾ لا تدفعنَّكم مُخالفتي ومعاداتي.
﴿مَا نَفۡقَهُ كَثِیرࣰا مِّمَّا تَقُولُ﴾ تهكُّمًا وأنَفَة، كأنهم يقولون له: كُفَّ عنا.
﴿وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ﴾ لولا عشيرتك.
﴿لَرَجَمۡنَـٰكَۖ﴾ بالحجارة.
﴿وَرَاۤءَكُمۡ ظِهۡرِیًّـاۖ ﮓ﴾ جعلتموه وراء ظهوركم، كناية عن إهمال حقه والإيمان به.
﴿عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ﴾ على طريقتكم.
﴿جَـٰثِمِینَ﴾ جثثا هامدة، ومن الملاحظ هنا ورود هذا الوصف مع عذاب الصيحة، كأنها تزهق الأرواح دون تدمير، والله أعلم.
﴿كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡاْ فِیهَاۤۗ﴾ لم يُقِيمُوا فيها.